«نص الكلمة التي ألقاها صاحب السمو الملكي الأمير تركي الفيصل رئيس مجلس إدارة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية في المنتدى الدولي للاتصال الحكومي 2021 بالشارقة»
إننا نعيش في عالم واحد ما فتئ عبر تاريخه الطويل من المضي قدماً رغم الحروب الطاحنة بكل أنواعها ورغم قيام إمبراطوريات ودول وسقوطها، ورغم اندثار أمم وبزوغ أخرى، ورغم هيمنة حضارات وضعف أخرى، ورغم كل ما واجهته البشرية من ويلات. إن هذه الحقيقة متجسدة بشكل جلي في ما يعيشه عالمنا اليوم من تقدم في مجالات العلوم والطب والتقانة والصناعة والاتصال والاقتصاد والإدارة والفكر والثقافة وفي ظل عولمة اقتصادية ومالية وإعلامية فرضت تشابك مصالح العالم وتداخل فضاءاته المختلفة حتى أصبح عالماً واحداً. وليس أدل على ذلك أكثر مما أكدته جائحة كورونا التي لم تميز بين البشر والدول والقارات ولم تعترف بالحدود السياسية والطبيعية القائمة بين الدول. إن وحدانية عالمنا تحتم علينا، أن نسعى دائماً إلى العمل على أن يكون تقدم عالمنا وتواصلنا محكوم بما يحقق مصلحة الإنسان الذي هو غاية بنفسها. وهنا استحضر ما سطره الفيلسوف الشهير إيمانويل كانت، إذ يقول: ينبغي:» الاعتراف دائماً بأن البشر غايات، ولا ينبغي أن يكونوا أدوات تستخدم لغايات أخرى».
«Always recognize that human individuals are ends, and do not use them as means to your end.»
وإذ لم يكن الأمر تاريخياً بهذه الصورة المثالية فإنه لا ينبغي تجاهل هذه الحقيقة لتجنب أخطاء الماضي والاستفادة من دروسه لتكون نهايات ما يشهده عالمنا من تحولات كبرى في سبيل خير الإنسان. وخير الإنسان ينبغي أن يكون هو رسالة وهدف التواصل والاتصال بين الحكومات وشعوبها والمجتمعات والدول فيما بينها ليسهل التفاهم والتعاون بين الجميع بعيداً عن الأنانية وغرائز الشر والتسلط والهيمنة. وفي هذا السياق وفي ظل انتشار الوعي المجتمعي والعولمة الإعلامية لا ينبغي تكرار أخطاء الماضي برسم أحلام وردية تطغى على وعي الناس وتقنعهم بغير الحقيقة، فالمصداقية والموثوقية تجسر الفجوات بين تطلعات الناس وسياسات حكوماتها. فكلما اتسعت هذه الفجوات وجدت البيئة المناسبة للاضطراب السياسي وعدم الاستقرار والتغيّرات غير المحمودة. وفي مثل هذه البيئة الموبوءة يزدهر سوق الشائعات وتبرز نظريات المؤامرة الفارغة التي سيتناولها هذا المنتدى ضمن فعالياته، وحيث تنشط التوجهات الفوضوية المحبطة للسياسات الرشيدة. ولنا في تداعيات غياب الثقة والمصداقية بين الأنظمة وشعوبها في دول عربية وغير عربية عبرة لمن يعتبر.
يثير تكرار الأزمات السياسية والاقتصادية العالمية والمالية والتغيرات المناخية وانتشار الأوبئة والجوائح والجريمة المنظمة والهجرات وشبكات الفساد العابرة للحدود وانتشار المجاعات والفقر عدداً من التساؤلات حول الخيارات الاقتصادية والمالية والصحية والقانونية المتبعة في العالم، وحول السياسة الدولية وهيكلية النظام الدولي. وتفرض على الجميع التفكر فيها ومعالجة قصورها ليكون تقدم البشرية تحقيقاً لمصالحها.
إنما يثير هذه التساؤلات هو أنه في ظل ترابط ووحدانية العالم وعولمته الاقتصادية والمالية أصبحت السياسات الوطنية نحو كثير من القضايا المركزية الداخلية والخارجية انعكاس لسياسات رسمت خارج حدود الدول الوطنية. وعليه فإنه في كثير من الأحيان يكون صانع القرار في الدول الوطنية ملزماً بأن يّكيف بعض السياسات الوطنية لتستجيب للمتطلبات الدولية. وهذا سمح للدول بالاندماج في المنظومة الدولية ومنظومة العولمة والاستفادة منها. لا شك أن كل أزمة مالية أو اقتصادية أو أي قرار اقتصادي أو مالي أو سياسي أو تقني يتخذ في واشنطن أو نيويورك من قبل الولايات المتحدة أو من قبل المنظمات المالية الدولية يترك أثره الفوري على سياسات الدول المالية والاقتصادية. لقد تسببت أزمة سوق العقارات في الولايات المتحدة في عام 2008 بأزمة مالية عالمية عانت منها دول العالم. ولكن كل هذا كان يتم في نظام دولي مستقر أتاح للجميع نوع من الأمن والاستقرار الضروري لتحقيق إنجازات خدمت الجميع.
لقد حققت دول كثيرة إنجازات مهمة بتكيّفها مع المتطلبات الدولية بل أصبحت فاعلة في المنظومة الدولية، وتعاملت مع الأزمات بما لا يضر بمصالح مواطنيها. ولا أبالغ أن قلت أن دول مجلس التعاون قد نجحت في ذلك واندمجت بالعولمة الاقتصادية والمالية واستفادت منها إيجاباً في ظل هذا النظام الدولي. إن دوام الحال من المحال فالظروف الدولية والبيئة التي سمحت للعالم أن يتقدم ويتوحّد تتغير أمام أعيننا، وهذا ما سيقودني إلى موضوع حديثي وهو الإجابة على بعض التساؤلات الجوهرية: إلى أين نحن سائرون بعالمنا الواحد؟ هل نحن عائدون إلى صراع القوى العظمى من جديد، واقتسام مناطق النفوذ، وهل ستكون منطقتنا ضحية من ضحايا هذه الصراعات كما كان عهدها عبر تاريخها؟ وأين نحن في العالم العربي مما يجري من حولنا، وهل طبيعة تواصلنا واتصالنا مع العالم يضمن لنا أمننا واستقرار منطقتنا في عالم متحول. لا يمكنني الإجابة على كل هذه التساؤلات لكن لعل الأخوين معالي الأمين العام للجامعة العربية أحمد أبو الغيط، ومعالي الأمين العام لمجلس التعاون لدول الخليج العربية الدكتور نايف الحجرف يضيئان بعض جوانب هذه التساؤلات.
لا يخفى عليكم ما يموج به عالمنا من أحداث، وما تعيشه أوضاعه من تحولات، وما تجري به من استقطابات، وما تفرضه هذه التحولات والاستقطابات من تحديات إستراتيجية على كافة الدول العظمى منها والمتوسطة والصغرى. وحالة عدم اليقين القائمة حالياً على مستوى العالم تثير كثيراً من التساؤلات عند القيادات وعند الشعوب في آن واحد، ولا توجد
إجابات جاهزة لها، فعالمنا يعيش حالة مخاض صعبة، وليس من اليسير التنبؤ بما ستكون عليه الحالة الإستراتيجية في العالم قبل معرفة طبيعة نتيجة هذا المخاض. إن التحدي الأكبر اليوم أمام العالم هو إدارة التحولات الجارية في النظام الدولي نحو صياغة نظام دولي جديد وإعادة هيكلته لتعبر عن موازين القوى الدولية القائمة، وتستوعب المتغيرات العالمية في كافة المستويات، وتستجيب لتطلعات دول العالم في إيجاد نظام دولي عادل يوفر بيئة إستراتيجية للدول لتكيف سياساتها بما يحفظ مصالحها الخاصة وفي إيجاد عالم يسوده الأمن والاستقرار. إن الفشل في مواجهة هذا التحدي سيقود إلى صراعات دولية العالم في غنى عنها وتهدد ما أنجزته البشرية خلال العقود الماضية من إنجازات في كافة المجالات بما في ذلك مستقبل العولمة. ونحن اليوم على حافة تحول قد يعيدنا إلى الصراع بين الدول العظمي يهدد إنجازاتنا البشرية.
إن عالم اليوم ليس عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية عندما قام المنتصرون فيها بتأسيس نظام دولي يضمن الصدارة والهيمنة لهم في الوقت الذي كان عليه أن يقوم على حفظ «السلام والأمن الدوليين». كان هذا الترتيب مفهوماً ومقبولاً كأمر واقع، وكتعبير لموازين القوى وواقع العالم في حينه. إن من الإنصاف القول إن هذا النظام، على عكس النظم الدولية التي سبقته، نجح في استمراريته وفي أن يصبح نظاماً ومرجعية للحكم الدولي والسياسة العالمية خلال العقود السبعة الماضية. لقد كان هذا النظام قادراً، على الرغم من عيوبه، على تجنيب العالم الحروب بين القوى العظمى التي كانت القاعدة للشؤون الدولية في القرون السابقة. ونجح أيضاً بشموليته في دمج كل دول العالم في منظومته وفي الجماعة الدولية. وأسهم في تحرير كثير من البلدان والمجتمعات في جميع أنحاء العالم من محنة الاستعمار وقهره، وساعد في تنظيم شؤون الحياة العالمية في العديد من الهيئات الدولية الناجحة التي تتعامل مع جميع أنواع القضايا الدولية التي تمس الإنسانية: حفظ السلام، والصحة، والتعليم، البيئة واللاجئين والتنمية. وقبل كل شيء، فقد عزَّز هذا النظام بالاستقرار الذي أوجده على المستوى الدولي مبادئ المساواة بين الدول، وحق تقرير المصير، وسيادة القانون الدولي.
لقد حولت الحرب الباردة التي استمرت ما يقرب من أربعة عقود النظام الدولي إلى نظام ثنائي القطبية، حيث تمتعت كل من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي بكل النفوذ السياسي والاقتصادي والعسكري والثقافي والعلمي دولياً وإقليمياً. لقد قسمت هذه الحرب العالم، وفي مناسبات عديدة كان العالم على شفا حرب شاملة وساخنة. لحسن الحظ نجح العالم في تجنب مثل هذه الحرب، لكن من المؤسف أن الملايين من البشر في كثير من بلدان العالم فقدوا حياتهم نتيجة لسياسات التنافس والصراع بين القطبين.
لقد انتهت الحرب الباردة مع انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991 وتحولت القطبية الثنائية إلى القطبية الأحادية حيث تمتعت الولايات المتحدة بكل النفوذ السياسي والاقتصادي والمالي والعسكري والثقافي والعلمي على الساحة العالمية. كان العالم يأمل أن يكون هذا التحول الكبير في النظام الدولي مؤدياً إلى نظام دولي أكثر إنصافا يعكس المبادئ التي كانت الولايات المتحدة تدعو إليها خلال الحرب الباردة: سيادة القانون، وتقرير المصير، وحقوق الإنسان، والمساواة. كان تحقيق مثل هذا الحلم هو ما يحتاجه المجتمع الدولي الذي أصبح أكثر ت اربطاً وتداخلاً وأكثر عولمة وأكثر في اعتماديته المتبادلة. بمعنى آخر كانت وحدانية العالم أقرب من أي وقت مضى. لقد تبدد هذا الأمل وفشلت الجماعة الدولية في العمل على حل ومواجهة التهديدات الجديدة وفي حل المشاكل الإقليمية والدولية القائمة. ومع الأحداث الكارثية في 11 سبتمبر 2001تحولت الأحادية القطبية إلى الانفرادية التي لا تلتزم بما يفرضه النظام الدولي من التزامات. أدت هذه الانفرادية إلى حروب في العراق وأفغانستان أدى غبارهما وتداعياتهما إلى دفن هذه القطبية الأحادية، وإلى الأبد إن شاء الله. وبإيجاز لم تكن معاناة البشرية في نظام أحادي القطبية أقل منها في النظام ثنائي القطبية. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: ما إذا كان تعدد الأقطاب هو صيغة مناسبة لإدارة شؤون العالم؟ لو تمعنا في تاريخ النظام العالمي منذ ترتيبات ويستفاليا في سنة 1648، لوجدنا أن النظام متعدد الأقطاب كان وراء الاستعمار، وتقاسم مناطق النفوذ، والحروب بين القوى العظمى وحلفائها. لقد كان هذا في الماضي، ولكن ليس هناك ضمانة بأن الأنانية والمصالح الذاتية وغرائز الهيمنة والاستحواذ قد انتفت في السياسة الدولية. لا شك أن النظام الدولي يحتاج إلى إعادة هيكلة ليكون عادلاً، شاملاً، ومعبراً عن الواقع الدولي ً، حيث إن القوة في جميع عناصرها موزعة بين مراكز قوى عديدة. إن العالم واع جداً بحقيقة غياب العدالة في النظام الدولي القائم وينظر إليه بأنه متخلف في بنيته وغير قادر على معالجة قضايا اليوم.
لا يحتاج العالم إلى حرب عالمية جديدة لتشكيل نظام عالمي جديد لإثبات أن الأنظمة العالمية التي نشأت في التاريخ كانت من نتائج الحروب الكبرى. إن تقدم الإنسانية في جميع نواحي الحياة، وإدراك الجميع أننا نتقاسم مصيراً مشتركاً، والاعتقاد بأن السلام والأمن هو هدف مشترك للجميع على الأرض، والإنجازات التي تحققت للبشرية خلال العقود الأخيرة في القضايا التي تؤثّر على حياة الإنسان، تملي علينا جميعاً أن نعمل بجد وأن تكون رسالتنا الدولية هي السعي لإصلاح منظومة الأمم المتحدة لتكون عادلة، شاملة، ومعبرة عن تطلعات شعوب العالم، وإن تعبر عن الواقع الدولي. لقد سقطت جميع الدعوات لإعادة هيكلة أجهزة الأمم المتحدة، وخصوصاً مجلس الأمن، وتم تجاهل هذه الدعوات من قبل الدول المتمتعة بالعضوية الدائمة وبحق النقض الفيتو. فلا يجوز أن يبقى مجلس الأمن محتكراً لخمسي سكان العالم متجاهلاً الثلاثة أخماس الأخرى. إن الفشل في الانتقال السلمي لنظام دولي جديد أوجد بيئة جديدة تبرز فيها الصين قوة عظمى منافسة للنظام الدولي الغربي الذي أدار من خلاله الشؤون الدولية في العقود الماضية. وهذه البيئة تشهد إرهاصات عودة الصراع الدولي بين قوة مهيمنة وقوة صاعدة لا تعرف مالآته بعد، لكن كل المؤشرات تقود إلى أننا أمام حرب باردة جديدة بتحالفات دولية جديدة ستنعكس آثارها على جميع دول العالم وتفرض عليها خيارات مختلفة في سياساتها وعلاقاتها الدولية. وهذا الوضع سيكون ضاغطاً علينا في دول الخليج والدول العربية عامة.
إن تحول إستراتيجي كبير كهذا يفرض أسس جديدة لطبيعة التواصل بين الدول لتجنب مخاطر هذا التحول والاستفادة من فرصه لضمان الأمن والاستقرار الوطني والإقليمي والدولي. أين نكون من كل هذا في منطقتنا العربية؟
إن النظر في حال العالم العربي بناءً على المعطيات القائمة في بعض دوله حالياً، لا يدعو إلى التفاؤل كثيراً بأننا سنكون فاعلين في ظل هكذا تحول؛ فهو عالم منكشف إستراتيجياً على جميع الأصعدة ومفتوح على كافة الاحتمالات. لقد كان هذا الانكشاف واضحاً للعيان منذ عقود، إذ كانت حالة التشرذم والضعف قائمة فيه جراء تداعيات أحداث جسام حلت في المنطقة خلال العقود الماضية منها الحروب العربية الإسرائيلية والحرب الأهلية اللبنانية والثورة الإيرانية والحرب العراقية الإيرانية وغزو الكويت، وغزو العراق، والثورة الإيرانية، والانكفاء على الذات وعدم التعامل مع المهددات المشتركة لكياناتنا ولشعوبنا، وجراء سياسات اقتصادية واجتماعية وتعليمية وإعلامية وثقافية غير موفقة على المستوى الداخلي في كثير من دولنا العربية، وجراء الأنانية التي ميزت السياسات الخارجية العربية خلال عقود كثيرة، وأيضاً بسبب وقوع الدول العربية ضحية سياسات وتدخلات خارجية مستمرة برضاها أو سكوتها أو مسايرتها أو دون إرادتها.
إن ما نشهده اليوم في عالمنا العربي من اضطرابات وفقدان للتوازن على مستوى الدول وعلى مستوى الإقليم كان نتيجة حتمية لخطل السياسات والخيارات المتبعة داخلياً وخارجياً. وكل ما نشهده اليوم أيضاً من تداعيات ما «سمي بالربيع العربي» ما هو إلا شهادة إدانة لتلك السياسات ونتيجة طبيعية لها.
هنا كتحديات إستراتيجيه علينا مواجهتها حالياً بسياسات فاعلة تساعدنا على التخطيط لمستقبل أفضل ودور فاعل في التحولات الدولية، ومن أهم هذه التحديات:
أولاً: الاستقطاب الحاُّد للقوى السياسية والاجتماعية الجديدة التي أفرزتها التحولات السياسية الجارية، وظهور النزعات الغريزية المُسَّيسة الدينية والطائفية والمذهبية والإقليمية والقبلية المكتومة في سيكولوجية شعوبنا؛ وهذا أكبر تحّد يواجه دولنا العربية، ويُولجها مآزَق جديدًة تَهّدد أمنها الوطني وتهدد وجودها ذاته؛ ما يعني أننا أمام واقع خطير ما لم تدرك الشعوب ونخبها خطورة الأوضاع، ووجوب التنُّبه بشكل جدي لمشكلات بلدانها الكثيرة والمركبة لصون دولها ومجتمعاتها من خطر التفكك والتقسيم. إن انهيار الدول الوطنية في العالم العربي هو ما يسمح للإرهاب والقوى التي لا تؤمن بالدولة بالتشكل والتوسع وتعريض أمن هذه الدول والمجتمعات للخطر.
إن الحفاظ على الدولة الوطنية في العالم العربي أمر حيوي لأمن وسلام مجتمعها، لكن ذلك لن يتحقق ما لم يصار إلى تجنب كثيٍّر من السياسات التي كانت متبعة في مجالات التنمية كافة، وإيجاد علاقة سوية بين الدولة والمجتمع؛ بحيث تكون الدولة الحاضَن للمجتمع بكل ألوانه وتنوعاته، وملبيةً لطموحاته وتطلعاته، ومرجعيةً لهوَّيته الوطنية. وفي الوقت نفسه على الحكومات ونخبها أن تكون سبَّاقة في الاستجابة لمتطلبات الإصلاح والتطور الدائم لقيادة مجتمعاتها نحو الأفضل. وعليه ينبغي لولوج المستقبل بثقة إنقاذ الدول العربية المعرضة للانهيار والتفكك وإنقاذ مجتمعاتها بمساعدتها على تجاوز هذه المرحلة الخطيرة، ومساعدتها على صوغ عقد اجتماعي جديد ينقذها مما هي فيه من محن يحقق طموحات وتطلعات شعوبها. وصيانة أمن واستقرار الدول المعرضة للمخاطر.
ثانياً: ضعف وهشاشة وتشرذم النظام الإقليمي العربي بكافة مؤسساته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فهو قليل الفاعلية وغير قادر على تأمين الحد الأدنى من الدفاع عن الدول العربية ناهيك عن تامين احترامها في إطار النظام العالمي وفي إطار طموحات الشعوب العربية.
وإذا ما أردنا أن يكون لنا فعالية في النظام الدولي فلا بد من معالجة جدية لمعاناة هذا النظام العربي من خلال تعزيز العمل المشترك في كافة مجالاته والابتعاد عن عقد الماضي الإيديولوجية والأنانية وعقدة الصغير والكبير والأقدم والأعرق والأحدث التي ميزت العمل العربي المشترك خلال العقود الماضية. لقد سمح فشل هذا النظام باتساع الخرق الإستراتيجي في منطقتنا العربية وأوجد فراغاً إستراتيجيا أتاح لإيران وغيرها أن تلعب بوحدة بلداننا وبوحدة نسيجنا الاجتماعي، وعليه ينبغي تفادي قصور منظومة العمل العربي المشترك لنكون مؤهلين وجاهزين بأنفسنا لمواجهة كل الاحتمالات.
ثالثاً: ضعف وهشاشة واحتقان الأوضاع الداخلية في كثير من دول العالم العربي على كافة المستويات السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وإذا ما أردنا العبور إلى المستقبل فلا بد لنا من إجراء إصلاحات حقيقية تستجيب لحاجة المجتمعات العربية وتطلعاتها وتستوعب كافة القوى والفئات والأقليات، وتحول دون نزعات التطرف والإرهاب وتحمي كيانات الدول ووحدتها.
رابعاً: يبقى الإرهاب خطراً ماثلاً وتحدياً إستراتيجياً لدولنا العربية لاسيما وهو يتغطى بعباءة ديننا الحنيف الذي يحاول أن يختطفه، ودون مواجهته مواجهة حقيقية على كافة الأصعدة ومعالجة أسبابه لن تنعم دولنا بالاستقرار. وهذا الإرهاب ليس فقط إرهاب فاحش والقاعدة، بل إرهاب كل القوى والمليشيات المتطرفة الطائفية المدعومة من إيران في العراق وسورية واليمن ولبنان وغيرها من الدول. فهذا الإرهاب العابر للحدود يشكل تهديدا وجوديا لمفهوم الدولة الوطنية في منطقتنا. وعليه فعلى الجميع الإسهام في دحره وهزيمته وإيجاد الظروف المناسبة لمعالجة مسبباته.
خامساً: يبقى الصراع العربي الإسرائيلي تحدياً حقيقياً للمستقبل العربي. لقد كان هذا الصراع ولا يزال سبباً في تعثر كثير من المشاريع العربية خلال السبعين سنة الماضية ومشاريع دولية أخرى قدمت حول مستقبل المنطقة. فبدون حل هذا الصراع حلاً عادلاً يستجيب لمطالب الشرعية الدولية لن تستقر هذه المنطقة، ويبقيها عرضة لكل الاحتمالات السيئة، حيث إن امتداداته تشمل كافة العالم العربي. وحل هذا الصراع ليس بيدنا وحدنا، بل هو مسؤولية دولية، وتجاهل حل هذا الصراع من قبل الولايات المتحدة والدول الفاعلة والمجتمع الدولي سيبقي المنطقة بؤرة للصراع وعدم الاستقرار.
ولقد تقدم المرحوم الملك عبدالله بن عبدالعزيز بمبادرته التي اعتنقتها كافة الدول العربية والإسلامية كحل عادل وشامل لهذا الصراع ونالت تأييد العالم كله ما عدى إسرائيل المتعنتة والمتحدية إجماع كافة الدول.
إن هذه التحديات وهي في ضمن غيض تحديات إستراتيجية يرتبط بها مسار المستقبل العربي، ودون معالجتها قد يكون مستقبلنا كحاضرنا إن لم يكن أسوأ. ومع ذلك ينبغي أن نبقى متفائلين، إذ ما زالت بعض دولنا صامدة في وجه هذه التحديات وتعمل على معالجتها والسعي لتجاوزها.
ليس قدرنا أن نبقى في هذا الوضع وأن نتحول إلى ضحية جديدة لصراع دولي محتمل بين دول عظمى، وأن يفرض علينا الاختيار بين هذا الطرف أو ذلك فبيدنا أخذ زمام المبادرة والعودة إلى أنفسنا ومعالجة مواطن خلل أوضاعنا. وفي هذا السياق على دولنا العربية الفاعلة إعادة الاعتبار إلى الجامعة العربية وإعادة بناء نظامها الإقليمي ليكون ضمانة لأمننا واستقرار أوضاعنا ومخاطبة العالم برسالة وصوت واحد. وفي الوقت نفسه علينا مسؤولية في منطقة الخليج العربية بحكم أهميتها الإستراتيجية وإمكاناتها أن نعزز دور مجلس التعاون الخليجي ونعيد له زخم مسيرته كنظام إقليمي فرعي فاعل يكون رافعة للعمل العربي المشترك. وأرى أن من الحكمة أن تتعاون الجامعة العربية ومجلس التعاون بمبادرة صوغ مشروع مشترك للأمن الإقليمي لمنطقة الشرق الأوسط يجمع الدول العربية بجيرانها على أن يقوم على احترام القواعد والقوانين الدولية المرعية في العلاقات الدولية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية ويتيح المجال لتعاون فعال يعيد الأمن والاستقرار للمنطقة ويسمح لها في النأي بنفسها عن أية صراعات دولية محتملة. لن نؤخذ بالاعتبار ما لم نأخذ أنفسنا بالاعتبار.
علينا التعلم من تجارب الماضي والاستفادة من دروسه، ولكني أخشى أن أختم بما قاله جورج برنارد شو» تعلمنا من التاريخ أننا لم نتعلّم من التاريخ».
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،
** **
تركي الفيصل - المنتدى الدولي للاتصال الحكومي 2021 بالشارقة 26 سبتمبر 2021