كانت ليلة بدء العام الدراسيّ الجديد سنة 1394هـ ليلةً مختلفة ومميّزة في حياته؛ إذْ كان حينها طفلًا قد أتمّ لتوّه خمسة أعوام من عمره، لا تحمل ذاكرته الصغيرة سوى وجوه معدودة، وشخصيات مألوفة، ومعالم صغيرة محدودة؛ بين بُيَيت يعيش فيه مع أسرته، وبُليدةٍ ارتحل والده عنها قريبًا يراها أقصى دنياه. وفي تلك الليلة صار محطَّ اهتمام أسرته، ورأى حقيبة تُنسب إليه، وتُزيَّن في عينيه، وثوبًا يُعرض عليه؛ تشجيعًا وترغيبًا له في يومه الدراسيّ الأوّل، الذي سيُلحق به - لصِغَر سنّه - مستمعًا.
بات ليلته تلك بمشاعر متضاربة، وخيالات متغايرة، يخلقها عقله الصغير محاوِلًا استحضار المشهد القادم؛ فلم يكن في زمانه ذاك روضةٌ تسبق سنته الأولى. وأضْفتْ طبيعته الفطريّة الحمّالة للهمّ - منذ ذلك الحين - تلك الليلةَ مزيدًا من التفاصيل على ما هو مُقدِمٌ عليه صبيحةَ الغد، مع أنّ أهله أخبروه فيما بعد أنه كان مقبلًا متلهِّفًا!
مضى مبكِّرًا صباح يومه ذاك برفقة أبيه إلى مدرسة ابن كثير الابتدائية في الرياض، لكنّه فوجئ عند بابها برفيقه يودِّعه باسِمًا مشجِّعًا، مفرِّقًا أصابعه الصغيرة المتشبّثة عن يده؛ ليطلقه بعيدًا عنه لأول مرة في حياة جديدة، ومسار جديد، فانطلق يحمل حقيبته العتيقة التي ورثها عن أخويه، وهو مزهوٌّ بها يراها كنزًا ثمينًا.
ودخل المدرسة مع أخيه الأكبر، الذي كان يحاول تشجيعه والإسراع بخطواته، لكنّ الصبيَّ مشغول عن الاستجابة بما يراه حوله من صبية كثيرين متشابهي الهيئة، متفقي المسار، وهو مشهد لم تألفه عيناه، جعل سيره متعرِّجًا بطيئًا لكثرة تلفّته وتأمّله وتوقّفه وتطلّعه، وفي كل خطوة يقترب فيها من حياته الجديدة يزداد قلبه نشاطًا، وتزداد عيناه سخاءً!
لم يكن اليوم الأول لذاك الطفل يومَ هدايا ولعب، بل يومَ جدّ وتعب، كغيره من أيّام الأسبوع الدراسيّ الستّة، مضى من أوله إلى فصله، وجلس مع أقران صغار تدور أعينهم مثلُه قلقًا وتطلُّعًا، حتى دلف إليهم ذاك الرجل الذي لم يكن أطول من أبيه، لكنه أسنُّ منه، باديةٌ عليه علامات الجدّ والصّرامة، مختلف اللباس والهيئة، واضحُ الصوت واللهجة، بيده قطعة بيضاء لم يلبث بعد السلام الهادئ والترحيب الموجز أنْ كتب بها على ذاك اللوح الأسود أمامه، مفتتِحًا مع صبيته الصغار حياتهم مع الحرف والعلم والمعرفة.
في يومه الأول كان لقاؤه الأول بأستاذه الأول، وكان لقاء مهيبًا أضفى عليه خيال الطفل المتوجّس كثيرًا من الأبعاد والتفاصيل، التي وجد كثيرًا منها مطابقة للواقع، متآخية معه. ولم يُحسَّ بغيره في ذلك الفصل الصغير، ففتح عينيه ليملأهما من صورة «الأستاذ» الذي رسمت خيالاتُه له صورًا؛ حتى كان أستاذُه الأوّل في تلك الساعة العالَم كلَّه لا يرى غيره، والعالِم وحدَه لا أحد من النّاس فوقَه، وبدأت مشاعره تتغيّر إلى مشاعر الهيبة والتقدير والإجلال، وازدادت وأستاذه يُمسك بيده الصغيرة المرتعشة ليرشده إلى طريقة مسك القلم، وكبُرت وهو بمعونة أستاذه يخطّ بثقل وبُطء أول خطٍّ له معنى.
كان من حُسن حظّ الصغير أنّ «أستاذه الأول» هو عطا ربحي؛ أستاذ فلسطيني يتّسم بما اتّسم به نظراؤه من جدٍّ وصرامة، فكان أولَ عهد صاحبنا المرتبك مع الصرامة الحادّة، وكانت أولَ درجة من درجات سلّم الجدّ يضع قدمه عليها بمعونة أستاذه الأول وإيحائه. علّمه جِدُّ أستاذه وابتسامتُه النّادرة أنّ الحياة الجادّة هي المشيدة البانية، وأنّ من يمشي على حبل الحياة يحتاج إلى من يشدّ يده وإن آلَـمَه حتى يصل إلى قصده، وأنّ من يُشغله ويضاحكه يوشك أنْ يُسقطه، وأنّ الذي يصفّق له دائمًا مثلُ الذي يصفعه دائمًا؛ فالأوّل يخدعه، والثاني يُؤلمه، وكلاهما يضرّه ويُضعفه.
لا يذكر كثيرًا من تفاصيل تلك الفصول الأثيرة، لكنّ الذي يذكره بكل وضوح أنّ أستاذه كان يملأ وقت الدرس بالعطاء والتعليم والتدريب، لم يره جالسًا يومًا على كرسيّه، فهو في جيئة وذهاب بين السبّورة والتلاميذ؛ يكتب على سبّورته حروفًا بيضاء، وينقشها في عقول صغاره بكل نقاء وصفاء. كان أستاذًا يحدّد مهمّته بكل وضوح، ويقوم بواجبه بكلّ إخلاص، ويعرف طلّابه الصغار، ويحسن تقييم قدراتهم أحسن تقييم، وينصح لهم أصدق النّصح. ولن ينسى أنّ أستاذه هو من شجّع أباه بعد أقلَّ من شهر ليعتمد تسجيله ودراسته.
باجتهاد الأستاذ بذر في قلب الصغير نبتة الحرف، وهي نبتة إنْ غرسها خبير لا تذبل ولا تشيخ، بل تعظم وتَزين وتَطيب، وحسبك بشجرة لا تذوي أزهارها، ولا تنقطع ثمارها! كان من ثمارها أنّ تلميذه الصغير لم يتمّ ذلك العام إلا وهو يُحسن الكتابة والقراءة، ثم لم يتمّ سنته الثالثة في المدرسة إلا كان قلّ أنْ يخطئ في كتابته، ولم يتمّ سنته الرابعة إلا وهو يحسن الإلقاء والقراءة، وهو يدرك أنّ الفضل في ذلك بعد فضل الله لأبيه «أستاذه الأهمّ»، ولمعلّمه «أستاذه الأوّل».
وما زالت شهادة تفوّقه في سنته الأولى بتوقيع أستاذه الأول من أعزّ وأغلى شهاداته في عينيه، وما زال يحتفظ بها متوسّطة بين شهاداته؛ لأنها أصل لها، وهيهات أن تُنسي الفروعُ أصلَها وجذرَها وأُسَّها. وفي رحلة الصغير مع «عطاء» الحروف و»ربحها» - التي كانت تلك الشهادةُ علامةَ الانطلاق فيها - تعلّم أنها مسيرة طويلة، ورحلة جادّة، تحتاج إلى صبر ومصابرة، وتعلُّمٍ وتحَلُّم، وعِلمٍ وحِلْم، وطموحٍ وحُلم.
أدرك ذاك الطفل بعد زمن أنّ أستاذه الأول شريك له في كل حرف كتبه ويكتبه، وفي كل حرف قرأه ويقرؤه، وآمن من بعدُ أنْ لا شيء يربو ويزكو كإيصال الخير والعلم.
وها هو اليوم يكتب ما يكتب عرفانًا منه بجميلٍ هو أعظم جميل يمكن أنْ يقدّمه إنسان لإنسان، ووفاءً لفضل أستاذٍ لم ينسَه مع طول الزّمان، وكم ودّ - واللهِ - لو كان التقاه بعد ذلك العام ليُقبّل يدًا طالما قوّت على الورق يدَه، وجبينًا طالما عرِق ليعيَ درسَه!
وقد تعلّم الصغير من أستاذه الأول «عطا ربحي» أنّ المعلّم الرّابح هو من أحسن العطاء؛ فهنيئًا وسَعدًا، ورحابة ونُعمى، لكلّ «أستاذ أوّل» كان «عطاءً وربحًا»، وصادق الدعاء والبرّ لمن شغل حياتَه عطاءً، وكان لمن حوله ربحًا.
** **
- أ. د. أحمد بن صالح السديس