هل يتقاعد الكاتب أو المثقف عن الكتابة بوصفها عملاً؟ وهل الكتابة أو الثقافة بالمجمل شأنها شأن أي عمل بحاجة إلى لياقة جسدية وفكرية وتطوير للذات ومسايرات المتغيرات.؟
الكثيرون يظنون أن الكاتب لا يتقاعد، بل ويذهب البعض على أن الكاتب تزداد قيمته الفكرية مع تقادم العمر والتجربة، ولكن هل يصمد هذا القول للتحقق والنقاش؟.
دفعني إلى هذا السؤال هو أن وزارة الثقافة وجهات رسمية أخرى ما زالت تدفع لتصدر الفعاليات الثقافية بتلك القائمة من الأسماء التي عرفناها وعاصرناها منذ ما يربو على الثلاثين عاما، ذات الأسماء (تقريباً) تعيد ذات الطرح وذات التصدر للمشهد الثقافي ناسية أو غافلة أو متجاهلة التغيرات العاصفة التي هزت المجتمع والعالم معرفيا وبشدة، وخلخلت هرمية الاسماء والرموز وأفرزت جيلاً جديداً يصنع ثقافته ورموزه واولوياته رافضاً أي وصاية، ولأنها باختصار لم تعد تلبي حاجاته ورغباته ووعيه بالعالم وفهمه للثقافة بشكلها الجديد. إذاً فما الذي ستقدم هذه الأسماء المكرسة لهذا الجيل.؟ جيل الثورة الرقمية، ولماذا ما زالت هي الحاضرة في مشهدنا في حين يغيب أو يُغيب جيل الشباب.
لقد تلاشت إلا قليلاً الصحافة الورقية وتعددت منابر النشر المعرفية وعبر وسائل التواصل والتي منحت كلاً منبره الخاص، ومنحته منبره الكتابي وبالصورة التي يريد، وتلاشى تأثير ما كان يسمى بالرموز، بل وفضحت هذه المنابر محدودية ثقافة البعض منهم وهروبه إلى الأمام عبر ثقافة التعالي والاجترار، ومع ذلك ما زال البعض يعيش خارج نطاق الحقيقة وعبر نرجسية لم تعد تعني سواه. ومن أجل هذا وغيره نطرح التساؤل: ألا يتقاعد الكاتب ؟ ومتى؟
يضعنا السيد (زيجمونت باومان) صاحب كتاب الثقافة السائلة* والذي عرف هذا الزمن بالزمن السائل، يضعنا أمام الحقيقة العارية سواء قبلنا بها ام رفضناها حيث يرى (تغير المجتمع كله في الزمن السائل، وحيث ذاب كل شيء بدءاً من الدور المسيطر للدول ومروراً بالمؤسسات الحافظة للثوابت والقيم والتوجهات، وليس انتهاء بالأفكار الكبيرة والانتماء والتضامن الجماعي ليحل مكانهم الآني والمتغير والسريع).
فهل أدركت النخب الثقافية لدينا هذا التغير الحقيقي؟ وهل أدركت أنها لن تكون قادرة على تلبية احتياجات هذا الجيل جيل الثقافة السائلة، جيل القيم الطيارة الخالية من الهموم من هموم المستقبل، والمتركز حول الأثرة واللذة وقبول فقدان الاتجاه والاستعداد للعيش خارج المكان والزمان، والترحيب بالدوخة والدوار من دون معرفة. والقول ما زال للسيد باومان والذي يرى أن الثقافة نشاط مفتوح وأن دورها لم يعد الحفاظ على قيم وثوابت أو حتى إشباع الرغبات، بل هي خلق مزيد من الرغبات وخلق ثقافة عدم الاكتفاء ومنح الإحساس بالرضى.**
وقد يكون هذا الطرح صادماً لكنها الحقيقة في ظل ثقافة نعيشها كل يوم، وقد يكون صادما أكثر أن هذا الجيل عازف جداً عن ثقافة الامتنان والتتلمذ ربما لادراكه أن ما يبحث عنه لم يعد متوفرا لدى من نصبوا أنفسهم رموزاً، بل ويرى هذا الجيل أن على هؤلاء الجلوس الآن للتعلم منهم أو مغادرة المشهد.
ومرة أخرى نعيد ذات السؤال: هل يتقاعد الكتاب أو حتى يتنحى؟ وهل لديه الشجاعة لطرح هذا السؤال على نفسه ومناقشته خاصة وأن معظم مثقفينا ليسوا مفكرين يطرحون اطرا معرفية خلاقة وصادمة ولكنهم معيدو ومستهلكو أطروحات ومعارف متراكمة وباحثون عن تصفيق الجمهور، وفي الأغلب أكاديميون يتداولون مناهج معرفية تلتزم حرفياً بالنصوص.
وخلاصة القول في رأيي أن هذا الجيل غادر منصات التتلمذ وصنع هو لغته ورموزه وثقافته تاركاً ما يسمى بالمشهد الثقافي خلفه لأن المتغيرات أسرع كثيراً من أن يدركها أو يواكبها جيل آن له ان يترجل.
وليت الكتاب والمثقفين المتقادمين في السن أن لا يسقطوا في فخ النرجسية وحب الذات، وأن يحتفظوا بما قدموه في زمنهم هم، زمن الورقة والقلم والفانوس السحري. وحتماً سيحفظ لهم الجيل الرقمي المعرفي التقدير والمكانة، لكنه لن يتقبل مزاحمتهم وسرقة زمن لم يعد لهم. وإذا ما أصروا على البقاء فليعلموا أنهم يتحدثون إلى مقاعد خالية، مقاعد غادرها جيل الحياة عن بعد.
*كتاب الثقافة السائلة زيجمونت باومان
** ذات المصدر
** **
عمرو العامري - جازان