كان تطلعه إلى إكمال الدراسة العليا يحدوه إلى التعرف على أساتذته، الذين سيمر بهم في طريقه، يقرأ كتبهم، ويتتبع أخبارهم، ويسأل عن مناهجهم وطرائقهم، فكان شرح الجزولية الكبير من مقتنياته في أوائل دراسته الجامعية، ولقد قرأ مقدمة محققه أكثر مما قرأ فيه، متفائلاً بتتلمذه عليه بعد سنوات.
لقد سبقت سمعة الأستاذ الدكتور تركي بن سهو بن نزال العتيبي إليه قبل اللقاء به، فبلغه من حزمه وقوته، وعلمه الجم، ودقته وضبطه، ما رغَّبه وأرهبه، وأطمعه وخوَّفه، ولما حقق الله له ما أراد، وجلس في مقعد الدراسة العليا، في مرحلة الماجستير أمام أستاذه القدير، وجد ما سمع وفوق ما سمع، فإن من رأى ليس كمن سمع، فوجد من هيبته ما وجد، وأدرك من آيات علمه ما أدرك، ولمس من حزمه ما قوَّمه وأفاد منه.
وكان مما يبعث الطمأنينة في نفسه، والأمن والرضا، أن أسند إلى د. تركي مادة التصريف، التي قد أحبها صاحبكم وتفوق فيها، وعزم أن يجعلها ميدانًا لدراسته، ويختار من مسائلها موضوعًا لرسالته، فمجمل أبوابها قد طرقه، وأكثر مسائلها قد درسه، فسيرى أستاذه منه مهما كان من شدة وحزم، ما يريده منه، ويرضيه عنه.
لقد سار الفصل الأول كجمال الزبَّاء، وكان يوم الاثنين أشق أيام الأسبوع، خشية أن يرى فيه أستاذ التصريف شيئًا يغضبه، من جهل بما لا يسعه جهله، أو غفلة عما يجب فعله، حتى إذا جاء الاختبار النهائي تحمل الطالب من عناء التصريف ما لم يتحمله منه قبل قط، وجلس يتأمل كيف دار الزمان، وانقلب الحال، حتى خشي من الصرف خشيته من الرياضيات والفيزياء في دراسته الأولى، ولا يُسكنُ من روعه إلا ما اطمأن إليه من ارتوائه منه، ومعلوماته فيه، ثم جاءت النتيجة مرضية، حيث أدرك النجاح، دون ما يأمله من تفوق، فكان ذلك تأديبًا له أن يرى نفسه فوق ما هي عليه، أو يخلع عليها ما لا تستحقه.
ومع هذه المشقة التي يجدها في نفسه في هذا المقرر مع هذا الأستاذ، إلا أنه يجد من وراء كلمات أستاذه الجادة، وطلباته الشاقة، ونظراته الفاحصة، نَفَسًا آخر، من حب ونصح، ورغبة في الخير، وحرص على التربية، لقد كانت كلماته رسائل تحفيز، وطلباته وسائل تمييز، ميزت العالم من المتعالم، والجاد من غيره.
لقد طوى صفحة السنة المنهجية، وختمها بلفتة من أستاذه، لما نشر بحثًا محكمًا في المجلة التي يرأس تحريرها، لم يجامله فيه، أو يتغاضى عن خلله، وإنما هو حكم المحكَّمين، شفعه بتأييده وتشجيعه.
وكانت العلاقة بعد ذلك بينهما علاقة متينة، وإن شط المزار، وتباعد ما بين اللقاء واللقاء.
وما كاد ينهي الفصل المنهجي في مرحلة الدكتوراه، حتى أُسند أمر إرشاده الأكاديمي إلى أستاذه أ.د. تركي العتيبي، فانفتح له باب جديد، تتنوع فصوله بين التحدي والصبر، والشدة والحزم، والعون والمساعدة، والتشجيع والتحفيز، واللطف والعطف الذي أدركه ثمة خير إدراك.
وسارت الأمور كالمعتاد، ووجد منه خير ما يجد طالب من مشرفه، إلا أنه حفزه للعمل أي حفز، فلا يدع له فرصة للتسويف، ولا أجلاً للتأجيل، ولا مهلة للإهمال، فأنجز ما لا ينجز في مثل وقته، حتى إذا قطع أكثر مشواره، صادف معضلة كادت تقضي على عمله، وتعيده لأول أمره، وتمسح جميع ما سوَّد من صحف، وقد بلغت ستمائة وثلاثين صفحة! وهنا كان موقف مشرفه في غاية الدقة والحكمة، فإنه إن كان في صفه كان متهمًا، فأيقظ كوامن النفوس، ولوَّن الحقيقة، وأقتر صفاءها، وجيَّش سوءَ الظن، وتوقعَ المحاباة، وإن كان ضده أودى بطالبه من غير ذنب اقترفه، أو شيء قصر فيه، فأبان المشرف عن حكمة وأي حكمة، وقف مع الحق، وتجرد له، فبين ولم يكتم، وصدق ولم يكذب، فكسبت القضية تأييد القسم والكلية، ثم أدركت بعد ذلك النجاح الكامل، ولله الحمد من قبل ومن بعد.
وعند مناقشة الرسالة، لم يقف المشرف موقف المدافع المتحيز كما العادة، وإنما ناقش طالبه فيما اختلف حوله معه أمام الملأ، لم يستصحب مجاملة، ولم يراعِ إلا التجرد للعلم.
وكم عرض في أثناء تلك الرحلة من عوارض، لا تتصل والعمل بسبب، وإنما هي الأسرة وشؤونها، وما يعترض ربَّها من مرض أحد أفرادها، أو حاجة له أو ضرورة، فهنالك يظهر نَفَس الوالد المشفق، وشهامة العربي المسلم، فينقلب الطالب أخًا، وتستحيل العلاقة من تتلمذ إلى صداقة، ومن عمَلٍ إلى زمالة، وهناك تظهر معادن الرجال، ولقد رأى صاحبكم من أستاذه ما يبهج الخاطر، ويسر النفس، ويقيِّد بقيد المعروف والفضل.
ثم يتأمل حاله قبل دراسته وفي أثنائها، وما كان يجده من صدوف، وما يخافه من مآل، ثم ينظر في تلك العاقبة الحميدة، فيرى كم كان الخوف وهمًا، والتخويف إرجافًا، وكم خلف القسوة من رحمة، ووراء القوة من إنجاز، لقد كان قدوة له في إنجاز بحوثه، وإدراك ترقياته.
رب كلمة بثت عزيمة، وأكّدت إصرارًا، فحققت هدفًا، وبلَّغت غاية، وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرًا، أن يجمعنا الله في جنته ووالدينا ومشايخنا وأحباءنا، مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
** **
أ.د. فريد بن عبد العزيز الزامل السليم - أستاذ النحو والصرف - جامعة القصيم