عبد العزيز الصقعبي
إلى:...
حين قررت أن أقرأ رواية «لو أن مسافراً في ليلة شتاء» لإيتالو كالفينو، تذكرت ذلك المشهد العالق بذهني منذ الطفولة، طريق الحوية القديم الكئيب، برد، ظلام، والدي رحمه الله يجلس بجانب السائق في المقعد الأمامي، والدي لا يقود السيارة لضعف نظره، وفي المقعد الخلفي، أنا، وأنت ولا أذكر من كان معنا أيضاً، أذكر أننا كنا متوجهين إلى المطار، وأنت ستغادر، لا أتذكر تماماً هل أنت قريب أو صديق لوالدي، ربما كنت في زيارة للطائف ولنا، وأراد والدي مرافقتك للمطار، لا أتذكر أكثر من ذلك، ولكن، وهذا الذي جعل تلك الرحلة تبقى في ذاكرتي الواهية، صوت شاديه وهي تغني «خذني معاك يا اللي أنت مسافر»، سمعت تلك الأغنية بعد تلك الليلة أكثر من مرة وتذكرت تلك الرحلة، وتحديداً البرد والظلام وحزن الفراق، لم أع تماماً وقتها الحزن، ولا الوداع، ولا الفقد، ربما مرافقتي لوالدي رغبة منه بتسليتي للذهاب إلى المطار ومشاهدة الطائرة التي ربما سأراها لأول مرة، ولكن، أنين الرجال في أغنية شادية كان أقوى، فلم أعد أتذكر إلا ذلك الحزن الغريب، لامرأة تودع جارها المغادر، وترجوه أن يأخذها معه.
في تلك الليلة كنت تجلس بجانبي، أو بصورة أدق كنتُ مع آخرين نجلس بجانبك على المقعد الخلفي بالسيارة، تتحدث مع والدي أحياناً، وتلتزم الصمت، بينما راديو السيارة يشارك الركاب، ببرامج وأخبار، ولكن في منتصف الطريق، بعيداً عن أضواء المدينة البسيطة، وحين كان الظلام مسيطراً، لا يخترقه إلا أنوار بعض السيارات الباهتة، بثت الإذاعة تلك الأغنية، كأن من يعمل بها يعلم أننا في طريقنا للمطار، وأن من ضمن ركاب السيارة الصغيرة مسافرا، فأراد أن يهديه تلك الأغنية، بصوت فيه شجن، ولحن أشبه بالبكاء، ربما ذلك المسافر لم يكن حزيناً، ربما لا مكان للحزن داخل تلك السيارة، لا أتذكر مطلقاً من في السيارة إلا والدي، والبقية لا أتذكرهم مطلقاً، حتى أنت، قد تكون قريبا أو صديقا لوالدي، أكرر ذلك ربما تتذكر تلك الرحلة، وتقول ألا تذكر يا عبدالعزيز، كنت أنا المسافر، وكانت شادية تغني، وكانت رحلتي إلى..، ربما تقول ذلك، وربما نسيت كل شيء، لأنك غادرت كل شيء، حتى ملامح الطفل الصغير الذي ينظر لمبنى المطار الصغير أيضاً وتلك الطائرة التي ستقل ركاباً وتصعد للفضاء كالطائر الذي يحلق فوق الأشجار، لم أتذكر أكثر من ذلك، ربما نمت في طريق العودة من المطار، بعد أن غادرت، ربما لم أودعك، أو بقينا في السيارة نراقب المطار والطائرة التي ربما كانت وحيدة من خلف الزجاج، حتى لا يداهمنا البرد.
وماذا بعد، هل أقرأ الرواية، أو أعيد الاستماع لشادية وهي تغني، أو أكتب بضع كلمات ربما تقرأها، وتتذكر أنك منذ أكثر من نصف قرن كنت في الطائف، وغادرته في ليلة شتاء، لم أبدأ بقراءة كتاب كالفينو ولم انتبه بعد لحديثه الموجه لي كقارئ الذي بدأه بقوله: أنت على وشك قراءة الرواية الجديدة....» طلب مني أن أسترخي وأركز بالقراءة، سأنفذ كل نصائحه، ولكن قبل ذلك أتمنى أن أعرف من تكون، أيها المسافر، ولماذا كان والدي حريصاً على توديعك في المطار، هل لأن الطائرة والسفر جواً حينها لها نهكة خاصة، أعتقد أن المطارات ما زالت لديها نفس النهكة، نفس شجن الحزن عند الوداع والفرحة عند اللقاء، والدي غادر الطائف ذات مساء ولم يعد له بعد ذلك، هل أنت في رحلتك تلك كنت مثله، لم تعد، أم أنا نسيت تلك الرحلة، ولم أفطن لتكرار مجيئك وذهابك، لأنه لم يعلق بذهني إلا ذلك المشهد الكئيب، وصوت شادية الشجي، في تلك الأغنية، هل ذاكرتنا تنتقي بعض المشاهد، وتبقي فرصة كبيرة لخيالنا.
سأقرأ وأكتب، ربما في يوم أعرف أو تعرف أنك كنت مسافراً في ليلة شتاء.
asals2000@hotmail.com
(جميل أن تقر أهذا النص وأنت تستمع لهذا الرابط)
https://www.youtube.com/watch?v=b6siiAdD-rs