«الجزيرة الثقافية» - حاورها: جابر محمد مدخلي - جازان:
كاتبة قررت أن تحمل حقائبها الخالية إلا من الكتاب، وتسافر بها حيث وجهة الاختلاء من أجل بناء المعرفة واستكمال مشاريعها البحثية العميقة في محور مهم هو التعرف على الإنسان، وتركيبته الذهنية والشعورية بآن واحد.. وهذا ما سنجد دلالته في كتابها المهم: «اليافوخ» الذي يؤكده كذلك منجزها «حسبته لُجّة» الذي استمطرت فيه تفاصيل دقيقة لمجتمع يصارع الأزمنة كما رأته، وقائم من لُجّته ومنطلق إلى صناعة طُرقه العالية.. مجتمعها السعودي الكبير الذي رأت أنه بات عليها من الواجب قراءته بوضوح وهي تفتش عن مصطلح الليبرالية بمفهومها الخاص والعام معًا.. إنها الكاتبة السعودية أمل أحمد الحازمي التي سعُدت «الثقافية» باستضافتها في حوار مفتوح حول تجربتها الإبداعية فإلى نص الحوار:
- ذهبت أمل الحازمي للكتابة محمولة على ذراع صلبة دفعت بها في البدء للبحث عن أعتى وأحدث المصطلحات تشكّلاً في المشهد الثقافي العربي، هو مصطلح الليبرالية، وكما قلت في مقدمة كتابكم «حسبته لُجّة» «عندما بدأتُ في التفكير في موضوع الليبرالية لم يخطر في بالي أن يكون في صورة كتاب وإنما بدأته كدراسة لمعرفة تعريفها من وجهة نظر المجتمع السعودي» اليوم ومن خلال متابعاتكم واهتماماتكم الحثيثة أسألكم: هل استطعتم الوصول لتعريفها من وجهة نظر هذا المجتمع؟
- بداية أتقدم بخالص شكري وتقديري لأسرة تحرير «الثقافية»، ولكم أستاذ جابر على جهودكم الواضحة لخدمة الثقافة والمثقفين بوجه عام، والمثقفات على وجه الخصوص، ولا سيما في هذا العصر الذهبي من عصور المرأة بوطننا، والتي فتحت أمامها العديد من الأبواب والمناصب القيادية وقد أثبتت نفسها فيها بكل جدارة واقتدار.
وبالعودة لتساؤلكم: المجتمع السعودي كان وما زال أغلبية عظمى منه خصوصًا ممن قد عاصروا زمن الصحوة منذ نشأتها ونمت مبادئهم وأفكارهم في خضم أحداثها، يلاحظ لديهم لغة التعميم لمصطلح اللبرالية واضحة جدًا لكل شخص حاول أو يحاول أن يكون غير متحيز في آرائه وأن ينقد ويقوم ما يصله دون القبول به مباشرة، كما لو أن هذا البعض قد ربطوا الليبرالية بالشكل والهيئة فنجد أنهم يصنفون الأشخاص حسب لباسهم أو هيئتهم الشخصية من إرسال اللحية أو حلقها، ومن حجاب للرأس فقط أو غطاء للوجه وما إلى ذلك.. بينما نجد أن هناك فئة أخرى وهم الفئة الأصغر سنًا الذين عاصروا زمنًا آخر، زمن الانفتاح على الحضارات والثقافات الأخرى زمن التواصل الاجتماعي على نطاق أوسع ومفهوم أوسع من نطاق الأسرة أو القرية أو حتى المدينة والدولة، إلى نطاق عالمي يشمل مختلف العالم بمختلف لغاته وعاداته وثقافاته. فنشأ عنه مفهوم آخر جديد ومغاير ولكنه لا يختلف عنه من حيث تطرفه في تقبلهم لمصطلح الليبرالية الذي هو في الأساس مبدأ نشأ في بدايته اقتصاديًا ليسيطر بعد ذلك على جميع جوانب ومناحي الحياة بتطرف سافر وديكتاتورية بشعة؛ بكل ما يحتويه من أخطاء ومبادئ لا تعني لنا ولا تمت لديننا أو مبادئنا بأي صلة. بينما لو التزمنا في مجتمعاتنا بالوسطية والاعتدال كما جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ومن قبله إبراهيم عليه السلام مصداقًا لقوله تعالى: «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا» لما شعرنا بالتغيرات والتوترات الاجتماعية بيننا، هذه الوسطية التي سعت وتسعى لها دولتنا على مر الأجيال.
- أشار كتابكم «حسبته لُجّة» إلى أنّ الليبرالية في المملكة العربية السعودية انشطرت إلى جزأين: ليبرالية سعودية، وليبرو إسلامية، وذهبتِ إلى سؤال: هل الليبرالية السعودية هي نفسها الليبرو إسلامية؟ ونحن نتساءل: هل يمكننا مشاهدة آثار ملموسة لهذا المصطلح اليوم في ظل الانتقال الكامل لأعلى مراتب التحضر المجتمعي والثقافي والتغيرات الديموغرافية السعودية المتجددة كل يوم؟
- الليبرالية السعودية والليبرو إسلامية بينهما نقاط عديدة مختلفة، حيث نجد أن إحداهما وهي الليبرو إسلامية أتت كحركة إصلاحية من منظور ديني نشأت في دول عربية –مصر- تحديدًا ومن ثم انتقلت إلى السعودية بينما الليبرالية السعودية كان العامل الأكبر المساعد على ظهورها البعثات الدراسية إلى خارج المملكة وما صاحبها من الصدمات الحضارية، لاسيما ونحن نعلم أنه في ذلك الوقت لم يكن هناك الانفتاح الكبير على العالم الخارجي كما أن من فضل الله علينا أن لم يسبق أن شابها ما شاب الدول التي تم استعمارها من قبل دول غربية من تغير في خصائص المجتمع وعاداته وتقاليده. ولكن كان الاثنان يتفقان على الرؤية العامة للإصلاح سواءً بوجود مجلس شعب أو مجلس أمة كما تطمح الليبرالية السعودية أو مجلس شورى كما نادت به الليبرو إسلامية، التي قد سبقهم إليها الدين الإسلامي من قبل في قوله تعالى «وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ» سميت سورة بالشورى؛ لبيان أهميتها كمبدأ تقوم عليه سياسات الدول الإسلامية. ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة في استشارته لأصحابه في كثير من الأمور ولم يغفل أيضًا أهمية رأي المرأة في حوادث عديدة دلت على ذلك لا مجال لذكرها.
- «يولد الإنسان مع وجود فتحتين في جمجمته» هذا الجزء من كتابكم «اليافوخ» إنها عتبة عنوان لافتة، وداعية للاستفهام: فلماذا «اليافوخ» ولم يكن الذهن، أو القلب؟ وكيف استطعتم إيجاد الذهنية العالية المتماسكة لتأليف مثل هذا الكتاب القيّم والمهم فعلا؟
- الإنسان بطبيعة الحال دائم التعرض للمثيرات في حياته التي تستدعي منه التفكير والتأمل، وهناك بعض الأفكار والتساؤلات مختبئة منذ الصغر في مكان ما في كل شخص منا؛ ولكن وفي وقت ما تبدأ بالظهور أقرب ما تكون إلى بركان كان خامدًا لفترة طويلة ثم مع المزيد من الضغط والحرارة يبدأ بالانفجار والغليان، ومع الوصول إلى مرحلة معينة من نضج الفِكر والفِكرة وبعد البحث والتقصي تجد أن المفاهيم تبدأ بالتغير والتطور وما كنت تظنه صحيحًا مئة بالمئة سابقًا يصبح أمرًا يحتمل الشك ومن هنا تنطلق لمعرفة ما تراه من وجهة نظرك أو ما دلت عليه الشواهد وأجمعت عليه الظواهر أو التجارب وما توصل له العلم حتى مع قصوره فما أوتينا من العلم إلا القليل.
- من يقرأ كتابكم «اليافوخ» سيجد نفسه أمام تحليل لمخ القلب أكثر من مخ العقل؟ فمن أين تأتي إليكم فكرة التأليف التحليلي النفسي الإبداعي بلغة أقرب ما تكون للغة السردية؟
- لأكن صريحة معك ومع كل من سيقرأ حوارنا هذا، لم يكن لديّ تصور واضح في البداية عن الشكل أو الصورة النهائية التي سيظهر بها الكتاب ولا أقصد بذلك عدم تسجيل الأفكار الرئيسة والأسئلة التي أود الإجابة عنها، ولكن لأن طبيعة العلم أنه كلما بحثنا فيه أكثر ظهرت وطفت على السطح تساؤلات أكثر. لذلك كان ظهوره بهذا الشكل بعد توفيق الله هو ما رميت بي فيه أمواج هذا العلم بتساؤلاته، مع العلم أنه لو لم أقرر أن أتوقف عند حد معين كان سيستمر لربما لسنوات أكثر بعد أن قضيت معه عامًا كاملًا مصاحبة له ليل نهار.
- كانت الاستدلالات القرآنية حاضرة بشكل قويّ وخادم لكتابكم «اليافوخ» وبالمقابل كانت النظريات: العلمية، والنفسية، والطبية، حاضرة دونما تعارض بين الحضورين: فهل كانت القدرات البحثية العالية حافزة لكم، أم الرغبة في تأليف كتاب متفرد هي الداعم الأكبر؟ ثم ما السر برأيكم من وراء غياب كتاب ثمين كهذا عن الحضور المشهدي؟!
- بالنسبة للشق الأول من سؤالك أستطيع أن أجيبك عليه بدون تردد بأن الأسئلة البحثية هي الجانب الطاغي بصورة أكبر حتى على المستوى الشخصي منذ الصغر، أذكر أنه في فترة ما وكنت حينها في المرحلة الثانوية في الصف الثاني ثانوي علمي على وجه التحديد، كنت اسمع بكثرة في تلك الفترة من أن فُلان أصيب بجلطة كفانا الله وإياكم السوء؛ أثار هذا الموضوع انتباهي وبدت بوضع أسئلة ومن ثم فرضيات للأسباب التي ربما تكون قد أدت إلى حدوث ذلك من نوعية الغذاء، وأسلوب الحياة مدخن أو غير مدخن وبحكم انتشار القات سابقًا بصورة كبيرة وانتشار عادة تناوله بين أفراد المجتمع من الرجال ومن هم في سن كبيرة تحديدًا كان هو أيضًا من ضمن الفروض التي نمت إلى ذهني، على الرغم أننا في ذلك الوقت لم نكن بعد تعرفنا على البحث العلمي ولا طرائقه ولا أسلوبه ولكنه لعلها هبة من الله عز وجل أحمد الله عليها، وما زلت احتفظ بما كتبته في تلك الفترة من عمري. وأما الشق الثاني من السؤال فلست أنا من أحكم عن مدى قيمة كتاب من تأليفي لأن الكاتب من وجهة نظر شخصية وإن كان يعتز بما يكتب إلى أنه دائمًا ينظر إليه أنه كجزء من النص مفقود. الحكم في ذلك يعود لكم كقارئ سبق له أن قراءته.
-»قُتِلتْ غِيلة» رواية صادرة في طبعتها الأولى للعام 2020م عن دار تكوين، مع قصر حجمها إلا أنها دافعة بقارئها إلى رسم حياة كاملة مختنقة بالتأزمات، ومغتسلة بالوجع؟ هل الكتابة لديك مبصرة حقًا، أم أنّ الكاتب برأيك هو القادر على صناعة مبصرة خاصة بأوراقه؟
- الرواية غالبًا وعلى الرغم من أن الكاتب يقتبس الفكرة الأساسية من الواقع إلا أن ما يكون ظاهرًا في جميع أجزاء الرواية بصورة جلية وواضحة هو خيال الكاتب والسيناريو الذي يمر في خياله لسير الأحداث ومصير الشخصيات.
- قبل خاتمة هذا الحوار تشكرك «الجزيرة الثقافية» على قبول دعوتها وتترك لكم الكلمة الأخيرة:
- أجدد في الختام ما بدأته من عبارات الشكر لكم بشكل شخصي أ.جابر، ولأسرة «الجزيرة» عامة و»الثقافية» خصوصًا. والشكر لله أولًا ثم لقيادتنا على ما نحن فيه من نعمة الأمن والأمان، وكذلك لصاحب السمو الملكي وزير الثقافة الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان آل سعود أول وزير للثقافة بالمملكة على ما قام ويقوم به من جهود ملموسة وواضحة تذكر فتشكر.. ونطمع منهم في فسح المجال للمزيد من الحرية في طرح الآراء والأفكار التي لا تمس الدين أو آمن الوطن ولا تعدو كونها عن تفسير وتحليل وطرح ونقد بناء، وناهض بالإبداع ومسيرة الوطن الثقافية.