د. إبراهيم بن محمد الشتوي
ظل السؤال عن المعنى الفني أو الفلسفي لشعر الطرد في الصورة التي كان عليها في الشعر العباسي يلح علي، حتى وقع تحت ناظري مقطع فيديو من هذه المقاطع التي تظهر أحياناً في الفيس بوك أو غيرها من وسائل التواصل الحديثة، ويظهر فيه كلب سلوقي يجري مشتداً خلف أرنب بري يراوغه ذات اليمين وذات الشمال، ثم يفر نحو تلة أمامه ينحدر بعدها إلى سفح في حدث دام عدة دقائق.
كان هذا المقطع يصور «الطرد» أدق تصوير، فلا يحتاج معه الرائي إلى وصف شاعر أو سواه، وإنما يراه رأي العين كأنه مع الصائدين، ونظراً لموقفي السابق من هذا الفعل، وبحثي عن مكمن الجمال فيه فقد نظرت في تعليقات المشاهدين قبلي علي أجد ما يكشف لي عن جمال هذا الفعل أو السبب في تصويره. كان الذي لفت انتباهي أن كثيراً من التعليقات تتحدث عن الوحشية لدى هؤلاء الذين أطلقوا هذا الكلب على الأرنب المسكين، وعمَّا يتصفون به من حالة نفسية مأزومة تستدعي العلاج جعلتهم يتلذذون بهذا المشهد القاسي دون أن تتحرك الرحمة في قلوبهم لهذا الأرنب المسكين الذي تقطعت أنفاسه وهو يجري فراراً من الكلب، ويتساءلون لماذا لم يتبادر أحد إلى إيقاف هذا المشهد القاسي، ومكافأة الأرنب بالسلامة على ما بذله من جهد للنجاء، كما يتساءلون عما يبعث على مثل هذا السلوك، وإذا كان أحد يمكن أن يعجب بهذا الفعل.
كانت هذه التعليقات تأتي من أماكن كثيرة من العالم ومكتوبة باللغة الإنجليزية والأسبانية، فهي لا تنتمي إلى ثقافة معينة ولا تعبر عن ذوق محدد بقدر ما تعبر عن الحس الإنساني، والذوق الفطري الذي يستهجن القسوة والوحشية، ولا يرى هذا الفعل ببعده الثقافي والاجتماعي.
صحيح أن «الطرد» نوع من الرياضة، واللهو الذي يستمتع به الصيادون سواء كانوا يطاردون الطرائد أو يشاهدون أدوات الصيد وهي تجري خلف الفرائس وتحاول اصطيادها، وصحيح أن كثيراً من الأمم لديها رياضات مماثلة، فالإنجليز مثلاً لديهم رياضة صيد الثعالب، وهي تقليد قديم كانوا يقومون به في موسم تكاثر الثعالب للحصول على فرائها، ثم تطورت إلى أن أصبحت رياضة قومية.
لكن هذا لا يمنع من السؤال عن مكمن الجمال، والمتعة في هذه المشاهد الدموية القاسية خاصة إذا علمنا أن جمعيات الرفق بالحيوان تعارض هذا النوع من الصيد بل صدر تشريعات بمنع هذه الرياضة، وهو ما يعني مشروعية السؤال وأن مكامن القبح أكثر من مكامن الجمال، هذا القبح الذي جعل أمة من الأمم تتنادى لحظره وإيقاف توارث التشوه الذوقي بين الأجيال.
كنت قد قمت باختيار أحد هذه النصوص شعر الطرد، وقمت بدراسته وفق المنهج الأسلوبي أحصيت فيه الأسماء والأفعال ووازنت بعضها ببعض ثم خلصت إلى أن الحركة في «الطرد»، والتي تتكون من جانبين: الأول جانب اللاحق الصائد، والثاني الملحوق الفريسة هي صورة مصغرة لحركة الموت والحياة، فالموت هو اللاحق، والهروب هو الحياة التي يبحث عنها الملحوق، ويرغب بإدراكها عند إدراك الفرار من اللاحق أو الصائد، أو هو الموت الذي يدرك الطريدة والحياة التي يسعى لتحقيقها اللاحق بسد جوعه.
فالإعجاب بها هو نوع من الانبهار بالحركة الأصلية الكبرى التي تمثلها، وهي حركة الموت والحياة بتعقيداتها الكبيرة وأسرارها الغامضة تخرج الحياة من الموت ويؤدي الموت إلى الحياة، ويصبحان في عملية صراع مستمرة تماثل الصراع في نموذج الطرد.
في هذه العملية يرى صاحب الصيد الإنسان نفسه في منزلة السبع اللاحق أليس صاحبه، ويمثله وهو الذي أطلقه، فتصيبه النشوة إحساساً منه بأن هذا الكلب معادل موضوعي له، وأن عملية الطرد هي الحياة نفسها وأن ظفر سبعه هو ظفر له، وظفره في هذه العملية أمارة على ظفره في الحياة نفسها وقيام حظه.
هذه العملية الإسقاطية بين الكلب وصاحبه، وبين النتيجة في عملية الصيد، وما تمثله في تفسير القصيدة لها من أنها صورة من صور العلاقة بين الحياة والموت هو الذي يمنح الطرد وشعره هذا الزخم الكبير في الثقافة الإنسانية، ويجعله يتناسى البعد الوحشي فيه، وما يمثله من قسوة وقتل وبغي أحياناً، لا سيما وأن هذه الصورة إنما قدمت من زاوية واحدة هي زاوية نظر اللاحق الصائد ولا مكان للزاوية الأخرى زاوية نظر المصيد بوصفه حيواناً غير قادر على الإفصاح والإبانة عن مشاعره أو أن يصف ما يحس به أو يجري خلفه. وعلى الرغم أن الطرف الآخر وهو اللاحق حيوان مثله إلا أن تماهيه مع صاحبه جعل إفصاح صاحبه أو من ينوب عنه إفصاحاً عنه، وهو يعزز الدلالة التي أشرنا إليها من قبل في أن الفعل اللازم يجعل الحدث مقتصراً على الفاعل دون أن يكون للمفعول به حضور في النية الأولى لمنشئ الفعل بناء على انعدام إمكانية حضوره في الجملة إلا بواسطة حرف الجر.
ولأن هذا الشعر هو صوت الصائد اللاحق وحده فإن هذا يدفعنا إلى القول إن هذا الشعر يحقق المقولة المعروفة أن التاريخ يكتبه المنتصرون على أكمل وجه، بيد أننا ننظر إلى التعليقات ا لمكتوبة على مقطع الفيديو المذكور في صدر المقال بوصفها نوعاً من التلقي للمشهد أو نوعاً من إجابة فعل النظارة، ونعده نوعاً من الإفصاح عن صوت الضحية الذي لا صوت له، يعبر عن وجهة النظر الأخرى في الطرد الذي يرفض هذه العملية ويعدها فعلاً وحشياً لا يختلف عن نظائره من الأفعال، ولا يسوغه رغبة صاحب الكلب في اللهو أو الاستمتاع بالوقت وكسر رتابة الرحلة أو حتى الأكل بهذه الطريقة المؤلمة.