سهام القحطاني
«واعلم أن الفلسفة استكمال النفس الإنسانية بمعرفة حقائق الموجودات على ما هي عليها والحكم بوجودها تحقيقاً للبراهين لا أخذ بالظن والتقليد» -صدر الدين الشيرازي-
الوجود مذكرة معرفة هذا ما اكتشفته الفلسفة الأولى التي تربت مدركاتها على ظلمة الوجود وضوئه ومجهوله ومعلومه وظاهره وباطنه.
ثنائيات صنعت سؤال الكشف أكثر من كونه سؤال المعرفة، سؤال الاطمئنان أكثر من كونه سؤال البحث، سؤال التعرّف أكثر من كونه سؤال التعريف، سؤال الأمن أكثر من كونه سؤال المفهوم، سؤال النفس أكثر من كونه مصلحة الجسد، سؤال الكينونة أكثر من كونه سؤال الظل.
ما هو الوجود؟ ولعل أول ما يُحيرك المقصود بهذا السؤال، لأنك حينها ستكون أمام العديد من الخيارات فهل المقصود بالوجود الظل الذي هو انعكاس للحدّ و الرسم والخاصية، وبما أن الظل هو أثر في ذاته فأنت على عتبة الدخول إلى دهاليز سيميائيات التأويل،باعتبار الوجود «وثيقة أثر».
هل الوجود كينونة في ذاته؟ وبهذا السؤال سنكون أمام معلوم بالحد والرسم و الخاصية ،لكن تلك الكينونة تحتاج إلى ملحق توضيحي فهل هي كينونة بالتمثيل أو الاستقلال» الجوهر» كما رسخ هذا المبدأ الفلسفي أرسطو، أو بالواحد الدال على الجمع كما اعتقد الفارابي ونيتشه أو بالجمع المستقل في مفرده كل في ذاته كما اعتقد ابن سينا و ديكارت؟
إن ربط الوجود بالجوهر منذ أرسطو المصطلح الذي غلب على الفلسفة في مجال تحليل الوجود سواء الماهية أو الصور الممثلة له أدخل مصطلح الوجود في الكثير من الجدل في طبيعة هذا الجوهر الممثل لأصل ميتافيزيقية الوجود الخفية التي تبرز كمعلوم من خلال الموجودات و أنماطها وقوالبها و مظاهرها بما فيه الجسد كحامل رئيس لتمثيل الوجود في جوهره بالإنابة.
أم أفلاطون فإنه قسم الوجود إلى جوهر و ماهية خلاف أرسطو الذي اعتبر أن الجوهر هو ممثل الماهية، ولعل أفلاطون سعى إلى هذا التقسيم لتقديم الوجود عبر ثلاثة مستويات الجوهر الأصل النقي المجرد وهو مطلق القيمة في كل شيء، ثم مستوى «المثال» -الماهية- الأعلى قيمة في كل شيء ثم «الصورة» التي تمثل «قالب المثال» وهي التطبيق الإجرائي للواقع، ومن هنا استمد أفلاطون فكرة الجمهورية المثالية أو النموذج المثالي للتطبيقات الإنسانية بما فيها الإنسان.
فالمثالية التي خلقها أفلاطون من خلال نظريته للوجود باعتباره جوهر ممثل للمجرد المطلق للقيمة و ماهية ترمز إلى الأعلى للقيمة والتي بدورها تُمثّل لقيمة المطلق، نزع عنها الصبغة البشرية «الشر والفساد» باعتبار أن كل حاصل أقل من مرتبة المثل أي ممثلات الأشياء المحسوسة أو المرئية هو نسخ مشوهة بالفساد و الانحراف.
وهو انتزاع أفقد هذه النظرية الواقعية الإنسانية فما لبثت أن تساقطت على أرض الواقع.
لقد آمن أفلاطون بأن الوجود كونه قيمة مطلقة لا نهائية هي انعكاس للإله ولذلك سعى أن يكون هذا الانعكاس مثال مطلق في الكينونة والصورة وتحريرهما من أي شائبة فساد أو انحراف ليليق هذا الانعكاس بصورة الإله.
وسار بعض فلاسفة المسلمين على هذا التقسيم الأفلاطوني كما هو الحال عند ابن سينا الذي قدما لنا تطبيقاً للتقسيم الإفلاطوني للوجود من خلال ثلاثية «الجسم والنفس والوعي» فالنفس هي الجوهر في أصله والجسم الصورة الممثلة لذلك الجوهر أما الماهية فهي تتمثل في وعي النفس بذاتها وهي بذلك ممثلة لوظيفة المحمول، ولعل ابن سينا استند إلى دلالة هذه الماهية للنفس من خلال وعي وعيها بذاتها بالوظيفة التوعوية للنفس بكونها مصدر تحفيز على الخير أو تحذير من الشر «النفس الأمَّارة والنفس اللّومة»، وباعتبار النفس مقاومة للفناء وتحمل أصل الخلود مما يجعلها مستقلة عن الجسد فهي وجود مستقل في ذاتها لا تتبع سلطة الجسد كما عرض ذلك في مثال «الرجل الطائر».
ونموذج الرجل الطائر الذي يدعم أن النفس هي ذات خالدة منحها الله الإنسان، وأنها تشتاق دوماً للتقرّب من مانحها لتُطهر الجسد من ذنوبه تأسس في ضوئه فكرة الصوفية واستعراضاتها الراقصة التي تقترب من فكرة الرجل الطائرة.
ونجد أن هناك توافقا فكريا في مسألة النظر إلى الوجود بين ابن سينا وديكارت الذي قال « في أننا نعرف أيضا ذلك التمييز القائم بين النفس و البدن..لكي نعرف طبيعة النفس و أنها جوهر متميز عن البدن»-مبادئ الفلسفة-ت-الدكتور عثمان أمين-النهضة المصرية-1960-
فالوجود عند ديكارت يُعرف بتمثيلاته التي يشبهها بالنور «وكذلك يظهر لنا هذا النور عينه على أن معرفتنا للشيء أو الجوهر تكون أشمل بمقدار ما نستكشف فيه من صفات أوفر»-مبادئ الفلسفة- فالماهية عند ديكارت هي البنية المعرفية الخام في الذهن الإنساني والوجود هو منظومة الرموز والتشفيرات خارج الذهن الإنساني.
يستعين الإنسان ببنيته المعرفية الخام داخل ذهنه لحل تشفيراتها وتفكيك رموزها من خلال وسيلة الفكر التي جعلها ديكارت أساس الوجود الفاعل للإنسان، من خلال عبارته الشهيرة «أنا أفكر إذن أنا موجود».
فالفكر عند ديكارت يحمل العديد من الدلالات فالجسد آلة عاجزة عن إصدار المعرفة الصافية من أي شك ولذا ربط ديكارت الشك بكل معرفة تستند إلى الجسد ،ومتى ما تحررت المعرفة من تأثير الجسد أصبحت «استنتاجا يقينا ينتفي معه كل شك»-مبادئ الفلسفة 93- و «صحيحة لا أستطيع أن أشك فيها، لأنها ترجع إلى النفس التي لها وحدها ملكة الوعي أو التفكير على نحو آخر»-مبادئ الفلسفة ص94-
فالجسد هو موجود مُعّفر بالشك في حين أن النفس كونها ممثل الماهية و المعادل لبنية المعرفة الخام داخل أذهاننا هي مصدر كل يقين كما أنها مقياس اكتشاف المشكوك و اختباره ولذا يذهب ديكارت أن « معرفتنا لفكرنا سابقة على معرفتنا لجسمنا، وأنها أشد منها بداهة، بحيث لو انعدم الجسم لكنا محقين أن نذهب إلى أن ماهية الفكر لا تخلو أن تكون موجودة بتمامها».-مبادئ الفلسفة،96-.
لقد اختلاف الفلاسفة من عهد أرسطو وحتى عصر العلم في مسألة الوجود و الجوهر وماهيته ومحمولاته حتى أصبحت هذه المسألة من أهم متلازمات الفلسفة، وستظل هذه المسألة مصدر جدل؛ لأن مفهوم الوجود سيظل رهيناً للفكر الذي هو قابل معرفي للتطور والاكتشاف والتمرد على التقليد.