حاورها - محمد الهلال:
أن تحاور شخصية، تحاورت مع العديد من الرموز الثقافية والأدبية في الوطن العربي، وبرعت في طرح الأسئلة التي لا يجيدها إلا من امتلك وعياً وثقافة.. موسوعية، إلا من اقترب أكثر من تلك الشخصيات، قرأ لهم، وغاص في إنتاجهم، كي يقرأ ما بين السطور، ولكي تختمر الأسئلة جيداً قبل الطرح، كل ذلك يحتاج إلى جهد وعمل لا يمكن أن يقوم به شخص واحد، هو من يعد ويقدم في نفس الوقت، لكن غادة الصنهاجي استثناء، فهي محبة للأدب منذ الصغر، وقاصة وكاتبة مقال أدبي نقدي له بصمته الخاصة عندما يصدر يتلاقفه القراء بكل شوق، نتاجها الأدبي مليء بالأسئلة، بالحوار، بالنقاش مع الآخر، بالدفاع عن القيم التي تسكنها، قيم الحرية والعدالة والحب. في حديثها وصفة مهمة، للرجل والمرأة، لحياة أكثر إشراقاً.
تكتبين العمل الإبداعي «القصة» و»المقال النقدي»، وتعدين وتقدمين العديد من البرامج الثقافية على قناة تلفزيونية مغربية: «ثقافة بلا حدود»، «كتاب اليوم»، «شاعر في خلوته»، «لقاء خاص»، «كتب ممنوعة». نتساءل كيف تنظمين وقتك ليستوعب كل هذا الفيض؟ وهل يتبقى شيء لحياتك الخاصة؟
إنّ مفهوم الوقت عند الكاتب يكون مختلفاً تماماً، لأنّ لديه ساعة بلا عقارب وأرقامها بلا ترتيب أو أهمية، كما أن علاقته بالوقت تكون على الأغلب محكومة بطبيعة عمله الموازي والمرتبط بمواعيد تحددها المهام التي تربكه على الدوام، لأنها تخرجه من زمنه الخاص وتجبره على الانقياد لسلطة أوقات العمل، كما يفعل اعتيادياً الآخرون من حوله. يمكن القول إن وقتي المتعلق بمهنتي الإعلامية ينظّم نفسه، إذ إن جدولة التصوير والتوضيب قبل البث تترك حيّزاً مضبوطاً لإعداد الحلقة، فأكون مضطرة إلى تكييف العمل ضمن هذا الحيز المُحكم، وإن كنت أجده ضيقاً في أحايين كثيرة خصوصاً حين يكون للضيف المدعوّ نِتاج غزير يستوجب القراءة المتمعّنة والبحث الجادّ.
وبالنسبة لما يتبقى من الفيض الذي ذكرتَه في السؤال، فأعتقد أنّ هناك أعماله لابدّ لها وأن تتداخل مع الحياة الخاصة لمزاولها، فالكتابة الأدبية والإعلام على السواء يشغلان صاحبهما فلا يعود يميز أحياناً بين ليله ونهاره، فهو مأخوذ بما يمليه الموضوع الذي يعالجه، ويصعب عليه أن يواكب نظام الحياة العادية ضمن محيطه القريب أو البعيد، فالأنشطة اليومية تبقى ثانوية وهامشية أمام الأهم وهو إنجاز ما يكون منكباً عليه، فبالنسبة لي حين أنتهي من عملي وإن كانت كلمة أنتهي لا تفي بغرضها هنا لأنّني من النوع الذي لا يعتبر عمله قد بلغ نهايته، ولا أنفكّ أحاسب نفسي على كلّ صغيرة وكبيرة تتعلّق به، إذ أكون الناقد الأول والناقم الأول على أيّ شيء كتبته أو قدّمته، ليغدو وقتي المتبقّي مُجَزّءا بين التفكير فيما أنجزته من قبل وفيما سوف أنجزه لاحقاً. أما فيما يتعلق بالحياة الخاصة فلا أظن أنّ الذي يقتحم مجال الكتابة الأدبية يستطيع أن يحافظ على خصوصية حياته فهو يصبح عاماً في كلّ شيء بدءًا من اسمه.
- عندما تتعرض للخذلان كثيراً، تقوّي مناعتك ضدّ الآخر، يصبح من الصعب عليه اختراقك، لا إيجابياً ولا سلبياً.. تعتبر نفسك بمنأى حين تزيد من حذرك وشكّك وتُبقي على الكثير من توجّسك..
تعيش حالات هروب دائمة
هذا المقطع من مقال لك، يدفعنا للسؤال عن بداياتك كيف تشكّلت؟ وما هي الصعوبات التي واجهتها؟ ومن كان بقربك من أسرتك؟ والبيئة التي نشأت فيها ما هو تأثيرها عليك؟ ومن هو الآخر الذي تخافينه وتهربين منه؟
أعتقد أن فحوى هذا السؤال الشخصي المركّب تعد من أصعب ما قد يعترض الكاتب في أي حوار معه، لأنه يجد نفسه في مواجهة مع نفسه، مع ماضيه وحاضره ومستقبله، مع قوته وضعفه.. لذا فأنا أحاول عوض البحث عن الإجابة إيجاد طريقة للهروب أو للمراوغة في الردّ، فكلّنا ذلك الغصن الغضّ الذي تشكّل ضعيفاً هشاً ولم يشتدّ عوده إلاّ بعد أن تعاقبت عليه فصول العمر، عبثت به الرياح وجرّته في كلّ اتجاه وصفعته الأمطار قبل أن تسقيه وجلدته الشمس بسياطها الحارة قبل أن يستمد منها الدفء والضوء. ترى كيف تشكّلتُ؟ أجدني هذه المرة أسأل نفسي، وقد كنت الطفلة العنيدة المتمرّدة النبيهة، المفرطة الحركة والخدومة والمحبوبة، عيبها أنّها كانت مفرطة الأحلام، كانت ترى عالم الكبار الذي تجهله مكاناً مغرياً وفيه يعيش المرء سعيداً وحراً.. لقد نشأت بين والدين مثقفين وأخ وحيد في منزل جميل فيه حديقة وحيوانات أليفة وطيور كثيرة، أفقت من أحلامي فجأة على كابوس اسمه الزواج وعقبه كابوس آخر اسمه الأمومة ورغم ما يحمله المصطلحان من هالة اجتماعية مهيبة إلاّ أن صغر سني وقتها لم يفقه في أدوارهما شيئاً، لقد تزوجت قبل أن أغادر طفولتي وما حصل لي لا أستطيع أن أسميه إلا المأساة المفجعة، لقد كنت أرضاً صلبة فتّتها فجأة زلزال.. لقد سألتني من كان بقربي من أسرتي؟ وقتها، لا أحد، كنت غريبة في مدينة بعيدة مع رجل لم أعرفه إلاّ بعد أن أغلق علينا باب بيت واحد. هناك صنف يعيش الصّدمة للحظة وصنف آخر يعيشها أعواماً عديدة، ولقد كنت لحظٍ وافر السوء من الصنف الثاني. لم أجد من صعوبة أكبر من كسر ذلك الباب، وأمضيت سنوات أحاول قبل أن أكتشف أن السقف كان مفتوحاً وأنه كان عليّ فقط أن أفرد جناحيّ وأطير... وبخصوص ذلك الآخر الذي ذكرت أنني أخافه وأهرب منه، لقد كنت إلى وقت قريب أحسب أنه قد يكون أيّ إنسان مؤذ، لكن ويا للغرابة، الآخر الذي نخافه ونهرب منه ليس سوى النفس، نحسبها آخراً لأننا نعكس عليه هواجسنا.. لقد توصلت إلى هذا بعد تجربة هروب حقيقي من الجميع. انزويت لمدّة وحدي في بيت جبلي موحش وسط الثلوج والضباب، عازمة التخلّص من أذيّة الآخرين، كنت أنشد السكينة في البعد عنهم، وفي أوج الوحدة المطلقة تسرّب إليّ صوت أنفاسي ودقات قلبي، لقد أزعجتُني وأقلقتُ راحتي، صِرتُ مَصدراً لخوفي ولا إمكانية عندي للهروب منّي، كان الصّخب في داخلي هو الدليل الوحيد على حياتي ولا خلاصَ منه إلاّ بوفاي.. لقد أدركت أننا نخاف ونهرب فقط من أنفسنا وإن كنا نقحم ذلك الآخر لنغطّي على الضعف البشري فينا.
- قابلت العديد من الشخصيات الثقافية المهمة في الوطن العربي، وكنت بارعة بشهادتهم وشهادة المتابعين، ممكن نسألك عن أهم تلك الأسئلة التي طرحتها تحت الهواء؟ ولمن وجهتها؟
إلى حدود اللحظة لا أصدق أنني حاورت أكثر من مائة وثلاثين شخصية ثقافية في المغرب وفي الوطن العربي، منها أسماء بصَمت أعمالها حياتي، وعندما أستحضر وقوفي أمام قامات كأدونيس ونوال السعداوي ويوسف زيدان وقاسم حداد وعبد الفتاح كيليطو وإلياس خوري وفوزي كريم وواسيني الأعرج وعبد الإله بلقزيز وغيرهم.. تتملّكني الرهبة من جديد. وفيما يخص أهم الأسئلة من مجمل الحوارات ربما يرتبط التمييز أساساً بالمُتلقي وذائقته ووحده قد يحدّد الأهم حسب ما يبتغيه من متابعته للحوار. لكن طبعاً هناك حوارات لديها في قلبي مكانة خاصة لأن بعضها ارتبط بظروف ميّزته عن غيره. سأذكر لك مثلاً سؤالاً جريئاً وضعته على الناقد المصري صلاح فضل خلال حلقة خاصة من برنامج «ثقافة بلا حدود» في مدينة أصيلة أثناء فعاليات موسمها الثقافي الدولي الـ 41 ، وكان السؤال كالتالي: «تمارس دوراً تنويرياً مهماً، لكن هناك من يجد بأنك تمارسه بشدّة وعنف، ما رأيك في ذلك؟» وأجاب عنه الدكتور صلاح فضل بما يلي: «أحياناً يتطلّب الأمر قدراً من الراديكالية كلّما كانت العوائق التي تواجهنا عنيفة، عندما أجد مثلاً من قصير النظر، ممن يستخدمون الخطاب الديني، من يحارب العلم باسم الدين، يكرّس التخلّف، لا يستقيمُ مجابهة ذلك بالحُسنى، لأنّ الجهل عندما يتوهّم أنّه ينتصر وأنّه هو الذي يمثّل الحقيقة، لابدّ من ردعه بشيء من القسوة، وهذه القسوة تصبح ضرورية، وهذه الصراحة تصبح أساسية، لأنّ الممالأة واتخاذ التقيّة مع أمثال هؤلاء ممن يكرّسون مثلاً لتخلّف الإنسان، لمحاربة الحرية، لمناهضة التقدّم، لإحباط مسعى مجتمعاتنا للتطوّر وأفرادنا للرّقي، كانوا مثلاً يُحرّمون على المرأة العلم، ويُحرّمون عليها العمل، ويتذرّعون بأن هذا من الشعائر، يُحرّمون عليها حتّى الجمال والذي تمثّل روح الكون فيه، ويتذرّعون بذلك، أيّ دين هذا؟ لا يمكن أن نشفق على هؤلاء أو نتواضع في مواجهتهم، لابدّ أن نكون حاسمين لأن هذه مسؤولية من يتولّى ولو بقدر ضئيل شيئاً من قيادة الفكر في مجتمعاتنا، قد يعرّضنا ذلك بطبيعة الحال لكثير من التهم، لكن إدارة الصراعات الفكرية السلمية التي تدين العنف البدني وإن كانت تتّسم أحياناً ببعض العنف المحسوب اللّفظي، الذي يبطل عنفاً آخر، جاهلاً ومدمّراً، تصبح هذه الإدارة ضرورية. أحسب أن الدفاع عن الفن، عن الجمال، عن الخير، عن الحق، عن العدل، عن التقدّم، عن الحضارة، لابدّ أن يكونشجاعاً بقدر ما تستحقّ هذه القيم أن ندافع عنها بوعي وحب وشجاعة.
- في مجموعتك القصصية «البلابل لا تحلق في الأعالي» تبعثين رسائلك للرجل والمرأة، تحثين الأول على فهم الثاني وتوجهين رسائل للاثنين وللمجتمع للاقتراب من الواقع، وفتح حوار صريح وشفاف، ووضع خطط إستراتيجية للحياة. باعتقادك هل العملية ممكنة؟ وهل هي قصة أفراد أم مؤسسات اجتماعية؟ والرجل والمرأة في مجتمعاتنا العربية لماذا هم في حالة صراع دائم؟
أذكر أنني قبل طبعي لمجموعة الرسائل القصصية «البلابل لا تحلق في الأعالي» في كتاب، نشرتها في حلقات على صفحات جريدة الأخبار المغربية، وقد قدمتها بهذا النص: «رسائل عتاب إلى القدر قبل الرجل.. سلسلة رسائل قصصية مشوقة تنقل القارئ إلى عمق العلاقة بين الرجل والمرأة، وتدفعه إلى تثمين الأحاسيس، وتأخذه إلى عالم عاشته النساء بما يملكن من روح وقلب وعقل ومال؛ إلى رجل.. رسائل بوح واعتراف وحب وكره وفرح وترح ولوم ولين وآمال وأحلام.. نساء وج ّهن القول إلى الرجال، وإلى الأرض والسماء.. نساء عانين الظلم والخيانة والغربة والطيش والتقاليد والحرية.. نساء بكين وضحكن وصرخن وصمتن.. نساء عشن ومتن في ظل الرجال.. نساء انتهين مرّات ظافرات، ومرّات خاسرات..كلّ امرأة في هذه السلسلة أصرّت على أن تبعث رسالتها إلى الرجل الأهم في حياتها، لتخبره فيها بحقيقة الحياة التي عاشتها معه في رضا أو في ندم.. حياة غفل عنها أو تغافل.. حياة غابت عن فهمه أو غيّب عنها فهمه.. وصية تركتها في حياتها وفي موتها.. إلى رجل.. في كل رسالة حياة.. وفي كل حياة قصة.. وفي كل قراءة استمالة إلى عوالم ساحرة لا تجيد حبكها إلا النساء..».
لا أدري إن كان النص يجيب عن تساؤلاتك، لكن ما أعتقده هو أن الإنسان في أي مجتمع عليه أن يتفادى الصراع وإن كان لا مفر منه أحياناً، كما أنه من الأفضل أن يتجنب وضع خطط إستراتيجية للحياة لأنها غالباً تستنزف وقته وطاقته وتضعه في تحدّ مع القدر، وبما أن هذا الأخير هو الغالب بالضرورة، فسيكون الخذلان مآلا طبيعيا لواضع الخطط.
سألتني لماذا الرجل والمرأة في مجتمعاتنا العربية في حالة صراع دائم؟ وهذا سؤال ربما فشل في الإجابة عنه من هم يتخطونني علماً وتجربة. في رأيي، ما دمنا نصرّ على الحديث على الرجل والمرأة ونحن نفصلهما ونميز بينهما ونضع كلاً منهما على جبهة، فنحن نجهّز لهما دائماً رقعة الحرب، فالرجل والمرأة يبقيان في أصلهما كائناً بشرياً يتكاثر ويعيش على الأرض فترة لها معدل بقاء، لكن هذا الكائن العجيب الذي اسمه إنسان يتوهم الخلود والقدرة على خرق قوانين الكون، وليست الحرب التي يشنها على غيره إلا رغبة منه في جعل هذا الوهم حقيقة، وفي هذا الصراع المجنون تضيع حياته هباء.
- السؤال أصعب شيء ممكن البحث عنه، وربما أصعب من الإجابة؟ ترتبط مهنتك بالسؤال، بل تقوم عليه، كيف تدربين نفسك على السؤال؟ وهل تطرحين أسئلتك على نفسك قبل ضيوفك؟ لو حدث أن إجابة الضيف لم تكن متوقعة وسببت لك حرجاً أو إرباكاً؟ كيف يكون تصرفك؟
لدي رغبة في الإجابة عن هذا السؤال بسؤال: منذ متى توقف الإنسان الحيّ عن وضع الأسئلة؟ إنه لا يكف عنها منذ أن وجد على هذه الأرض.
أعتقد أننا حين نكون فضوليين في طفولتنا، ندرب أنفسنا جيداً على السؤال ونلحّ على الجواب. تصبح معرفة الأمور من حولنا متعلقة بهذا الجواب الذي نتلقاه من محيطنا، الأسرة والمدرسة والشارع.. لهذا أستطيع الجزم بأنني بدأت هذا التمرّس مبكراً، وحين صار جزءاً من عملي غدا ممتعاً، خصوصا أنني أعدّ الأسئلة وأنتظر الأجوبة الفورية، فالبرنامج الحواري يصوّر في ظروف المباشر، وهذا لا يترك للضيف خيارات غير الإجابة أو التردّد أو الرفض أو الصمت، وكلها تعدّ في خانة الجواب في عالم الصحافة.
أظن بأن المتابع لبرنامجي يلاحظ بأن أسئلتي ليست اعتيادية أو نمطية، بل هي عميقة ومركبة ودقيقة، وهذا راجع ربما لاهتمامي الكبير بالإعداد لها كما يجب، فالأسئلة قادرة على فضح مستوى الصحفي والضيف على السواء، وكلاهما إذا لم يكن ملماً بالموضوع الذي يناقش، لن يرحمه المتلقي وسيكون عرضة لمساءلة الجمهور المتابع، وخصوصاً في مجال الثقافة، لأنها تضم فئة نخبوية متطلّبة وذات عين ناقدة ترى بدقّة وبوضوح.
فيما يتعلق بالإجابات غير المتوقعة التي قد تسبب لي حرجاً أو إرباكاً فهذا يكون نادر الحدوث، وإذا حصل، لا أجعل الضيف يشعر بردود فعلي، لأنني أحاول قدر الإمكان استيعاب الموقف وتخطّيه بمرونة، أحياناً أضحك أو أبتسم، لأنّ العفوية مستحبة عموماً في الحوار. مرّات يطلب مني الضيف حذف إحدى إجاباته بعد التصوير أو أكون مضطرة لذلك لسبب ما (تقني أو غيره)، وغالباً أقرر المناسب بعد استشارة إدارة القناة. سأحكي لك موقفاً طريفاً لن أنساه، حدث في الأستوديو قبيل تصوير إحدى الحلقات، وكنت أتواصل مع طاقم التصوير عبر الميكرو وسماعة الأذن، فسألتهم إذا كان شعري يظهر متناسقاً عندهم في الشاشة، فحسبني الضيف قد وجّهت السؤال إليه وبغضب كبير أجابني بأنّ أمر شعري لا يعنيه وأنه لم يأت للبرنامج للحديث عن جمال الشعر. شعرت بالإحراج قليلاً وأكدت له بلباقة أنني لم أسأله بل سألت مخرج البرنامج.
- تصفين الوالدين، أنهما مثقفان وأنك نشأت في بيت تسكنه الطيور والحيوانات والحب، هل يمكن أن تحدثينا عن علاقة أمك بأبيك؟ وكيف كانا يتصرفان معكما، في أي سن تزوجتِ؟ وكيف نربط زواجك المبكر بثقافة والديك؟ وهل كنتِ متعلمة بما يكفي قبل الزواج؟
أفكر كيف أستطيع أن ألخّص علاقة أمي بأبي في بضعة أسطر، هذا إذا كنت أملك الحقّ في ذلك. جرأتنا تبقى محدودة حين نضع أرجلنا على أراضي الآخرين رغم انتماء جذورنا إلى ترابها. علاقة الأم بالأب إذا وصفها كلّ منهما على حدة سنحصل على علاقتين متباينتين، وإذا وصفتها أنا سأضيف علاقة ثالثة وهكذا، لن نحصل أبداً على قصة واحدة، إنما قصصا متشابهة لكنها غير متطابقة، لكن عموماً ما يميز علاقتهما إذا وصفتها من وجهة نظري، كونها نوعاً ما مبنية على سطح غير مائل، كلاهما يعمل ويتمتع باستقلالية مادية وبشخصية قوية، ينتج عن هذا أحياناً صدامات لأن كلاً منهما يصرّ على الاحتفاظ برأيه الخاص، لكن في الأخير يتخذان قراراً منفصلاً بموجبه يغدو الرأي الواحد إثنين، بلا استسلام أو رضوخ للآخر، يفعل كل منهما ما يناسبه في الأخير.. وكنت أنا وأخي نصطفّ إلى الرأي الذي نراه منطقياً ودون أن يتدخّل فيه أيّ منهما.
والدي لديه عقلية أوروبية متحرّرة وهو إلى جانب وظيفته الحكومية فنان تشكيلي، يرسم لوحات زيتية بديعة، ينجز أعمالاً يدوية مبهرة، يحب الموسيقى الكلاسيكية العربية والغربية، وكان مواظباً على الخروج في رحلات قنص وصيد مع أصدقائه، ويعشق الحيوانات والطيور والطبيعة، كنت أستمتع بمساعدته ومشاركته متعة هذه الأشياء. أما والدتي فهي ذات عقلية عربية محافظة ومتديّنة، تطالع المجلات الثقافية بانتظام وتقتصر علاقاتها على العائلة من المقربين فقط، عملها في التدريس جعلها حازمة وجادّة في جعل الكلّ من حولها مستقيماً في أخلاقه وتصرفاته.
تزوجت في سن السابعة عشر، والزواج عندنا لا يرتبط بثقافة الوالدين، إنما بالأعراف والتقاليد، ففي المجتمع الذي نشأت فيه يتزاوج أفراد العائلات المعروفة فيما بينهم، تتزوج الكثير من البنات وهنّ قاصرات لم يبلغن سنّ الرشد بعد، ويعتبر الأمر أسرياً إيجابياً بل مستحباً، لأن هذا يدل على أن الثمرة التي أوشكت على النضج فاكهة طيبة تسرّ الناظر إليها وإلاّ ما سارع إلى قطفها قبل غيره..
فيما يتعلق بالتعليم فلقد كنت وقتها في السنة الأخيرة من التعليم الثانوي، ولم أغادر صفوف الدراسة بعد زواجي، لكنني تعثرت طويلاً في مشوارها لأنني غدوت أمّاً لديها مسؤوليات، لقد تشبّثت بالتحصيل وربما نجحت في ذلك من فرط عنادي وقوة عزيمتي، وعلى كل حال حين أعود بذاكرتي أخال أنه لم يكن ممتعاً أخذ ابني الصغير إلى الحضانة ثم الذهاب إلى الجامعة وأنا أحمّل نفسي وابلاً من الذنب، كيف أتركه وحيداً هناك؟ كنت ألوم نفسي باستمرار وأبكي أحياناً وأنا في طريقي إلى الجامعة.. الآن ابني هو الذي يدرس في الجامعة لكنني مازلت أراه جالساً على حافة مقعد طويل أزرق وفي عينيه الدامعتين لهفة انتظار عودتي لأحرّره من سجن روضة الأطفال.