«الثقافية - د. حمد الدريهم:
يقفون على المسرح لِيُظهروا طاقاتهم الإبداعية، وليرسموا صوراً تتشكَّلُ حزناً أو فرحاً حسب الحالة المسرحية.. كيف يصف الممثّل المسرحي لحظة وقوفه على المسرح؟ التقيتُ بهم ليصفوا لنا تلك اللحظة.
أحمد يعقوب: مفترق كل الأشياء في حياتي
«الضوء يسقط على الأشياء فنراها»، وفي المسرح؛ يسقط على الممثل فيرى نفسه جيداً، هذه اللحظة هي مفترق كل الأشياء في حياتي كممثل مسرحي، وبكل زهد؛ تكفيني أدنى ألوان الضوء لأستسلم لطوفان الأداء الذي تبعثه ذاكرتي، - دون ضرورة للضوء الأخضر أو قول «آكشن»! فهي ذاكرة تتسامح ببراعة مع خشبات المسرح وأشكاله المختلفة.
لا يَسهلُ - عادة - فهم ظاهرة تمسك الممثل المسرحي بهذه الحالة؛ رغم تفوق عملية الإنتاج في السينما والتلفزيون ونضج الفرص هناك ؛ إلا أن إدراك عجز الكاميرا عن توفير طقس التطهير الذي يوفره حضور الجمهور المباشر يمكنه أن يشرح الأمر؛ فسرعان ما تتحول القاعة إلى ما يشبه فضاء العبادة الذي يبحث فيه الممثل عن الغفران وهو يبث مأساته و ملهاته معاً، منتهيا إلى ردة فعل الجمهور التي دائما ما تأتي كجواب من السماء.
لطالما آمنت أن المنطلق الصفري للأداء هو حالة الضعف والخفة هذه التي يوفرها طقس العرض المسرحي، إنها عندي ذروة نشوات الدنيا، حيث لا ساتر بيني وبيني.
محمد جميل عسيري: لا أحاول أن أقاومه.. بل أتعايش معه
الجميع Standby… الجملة هذه تشعرك بالتوتر وأنها حانت اللحظة التي سوف يرى الجمهور فيها تعبك. عندما أكون في الكواليس اختلي بنفسي وأدخل في حالة هدوء مع نفسي، أُراجعُ الشخصية واستحضرها وأتفق معها أنها تذهب في حالها بعد انتهاء العرض.
على كل ممثل أن يرتاح ويختلي بنفسه قبل العرض وأن يصفي ذهنه جيداً ويدع أموره الأخرى خارج خشبة المسرح، ليتقن ماتدرب عليه ويتجلى في أدائه.
الهدوء والاسترخاء يساعداني على رسم الحركة في مخيلتي ويجعلني أتصور كل ما يدور على خشبة المسرح.
حانت اللحظة، وهذا وقتي للدخول. إلى الآن ما زالت لدي رهبة ما قبل العرض، وهذا الشعور يجعلني أقدم كل ما لدي، بمجرد دخولي يذهب هذا الخوف والقلق، ولا أحاول أن أقاومه، بل أتعايش معه حتى أكسب نفسي وثقتها، بعد خمس دقائق أكون قد تجليت وعشت الدور.
أحفظ أدوار الشباب، وذلك مهم جداً حتى أتمكن من مساعدتهم إذا وجدوا أنفسهم غير قادرين على تذكر حواراتهم في العرض. على كل ممثل أن يكون حاضراً بجسده وعقله، وأن يكون سريع البديهة وحسن التصرف، فلا أعلم ماذا سيحدث في العرض ولكن أعلم جيداً أن أكون جاهزا لأي ظرف.
اللحظات التي تجعلني أعشق المسرح. هي اللحظات التي يتفاعل معي الجمهور فيها ويصفق ويهتف، فلا أجمل من أن تحصد تعبك بعد العرض مباشرة. وتأخذ ردود الفعل ويأتيك شخص يريد صورة معك أو يأتيك فنان قدير له من الخبرة ما يجعلك تريد أن تسمع له وتأخذ بنصائحه.
نصيحتي لكل ممثل استمتع بما تفعله وكن واثقاً من نفسك ولا تمثل فقط، عش الحالة. ودائماً عليك أن تكون في وضع استعداد تام
الجميع Standby … ها نحن على وشك أن نبدأ.. استعدوا..!
عبدالله الزيد: يراقصُ الخيال على خشبة الوجود
الإمساكُ بناصية المعنى تبدأ مع الممثل لحظة فتح بقعة الضوء حين تكون جسداً مرئياً أمام الجمهور..
لحظة ولادة الفعل على المسرح حين تتسارع الأنفاس ويسكن الصمت دهاليز الاعتياد القادم من شوارع الحياة وتنوعها وأنفاسها المُكتظة.. إنه ذلك الشعور المختلج في حنايا الذاكرة العاطفية حين يظهر الممثل للجمهور في لحظة من نشوة الفن المشرق من نافذة العدم المظلم نحو المتعة.. الضحكة.. التعاطف.. الضجيج.. السعادة.. الكآبة..
حينها وفي هذا الوقت من النشوة والإثارة يظهر الممثل مثل عازف.. مثل شاعر.. مثل فيلسوف.. مثل قائد حرب.. مثل رجل دين.. لهذا سمي المسرح بأبي الفنون.. و أسميه «أبو الشعور».. والد الأحاسيس.. بل هو المسرح أب الحياة وطاقة العبور نحو فرص جديدة من صناعة المعنى وفهم الوجود.
الممثل في ظهوره للمسرح يراقص الخيال على خشبة الوجود. ينافس المتعة على عتبات الحياة..
إنه الخيال ذلك الشعور الساحر الذي لا يصنعه إلا البشر، ولا يجيده باستمتاع إلا ممثل المسرح فهو من يصنع المستحيل ويجلب الماضي إلى باحة المستقبل.
شعور الممثل حين يظهر للجمهور شعور العاشق في لقاء أول مع محبوبه المسرح
عبدالوهاب العيسى: دائمة العذرية والطُّهر من (الثانية) الأولى
تلك اللحظة الجامحة وذلك الهم اللذيذ، عندما تتقافزُ كل شعرة في ساعديك فرحا وحماسا لأنك ستقف أمام الجمهور، اللحظة التي لا تشيخ ولا تبهت مع الزمن، ستظل لامعةً وهاجةً في كل مرة، دائمة العذرية والطُّهر من (الثانية) الأولى التي تلامس قدمك الخشبة، تشعرُ ببهائها وسطوتها عليك، تعيدك دائما للمرة الأولى.
المرة الأولى قبل سبعة أعوام تقريباً لامست قدماي الخشبة لأول مرة وتأكدتُ حينها أنها لن تكون نوعاً عابراً من الخشب، كانت مختلفة ولم تكن كما سمعت عنها إطلاقاً، وهنا أقفُ قليلاً عند نقطة صغيرة جداً أن المسرح العظيم الكائن البهي والممكنُ العنيد يهبُ لكل شخص إحساساً مختلفاً خاصاً به وحده ينطلق من خارجه حتى يصل لدواخله يُبعثرها وكأنها أحجية ما، والذكي الماهر هو من يستطيع أن يجاري هذا الكائن العتيق يرتبها حسب ما يريد ليكون هو بنفسه صورة أخاذة تتفق مع إحساسه ودوافعه وحالته الفنية والإنسانية.
شعورٌ بالنشوة العجيبة من قدميك حتى يتوقف في معدتك قليلاً ثم يصل إلى أعلى رأسك ويرتسم على وجهك يخبرك عن مدى جدية هذا المكان وعن مدى صرامته أيضاً وانضباطيته الشديدة في كل شيء حتى شعرت بأنه يتحكم بالوقت وأنه سيكون معلمي الأول.
يحينُ دورك فتدخل وقد جيّشت طاقتك وجسدك وإحساسك وكل ما تملك استعداداً لأن تهبه للإنسان الذي يراك في الطرف المقابل وهنا تكمن عظمة الخشبة التي تقف عليها أن تجعلك تشعر أكثر بالإنسان الذي يقف معك أو الأهم ذلك الذي يجلس في الصالة، يترقبك وينفعل معك ويحس بإحساسك وتشعر بأنك أنت الذي يتحكمُ في تلك اللحظة بكل جوارحهم وأحاسيسهم وفي أكثر الأحيان بأفكارهم وفي المسرح فقط يحس الإنسان بالإنسان يشعر به ويشتم رائحته ويتذوق أفكاره.
وإلى كل ممثل في الوجود: كن كما تريد ارقص ببهاء، وقِف بشموخ، فهناك بشر يحتاج أن يراك دائماً فأنت من يهب للحياة حياة.
ثامر الحربي: يمنحنا أعلى طاقات الانسجام
صمت، تركيز عال، نهمس نحن الممثلين لبعضنا، بانتظار لحظة دخول الجمهور وامتلاء المقاعد ثم تتصاعد أنفاسنا حالما تطفأُ إضاءة الصالة، تنخفض أصوات الحضور استعداداً لصعودنا على الخشبة. الممثل الأول سيقع على عاتقه حسن وبراعة استهلال المسرحية لكي يمنحنا أعلى طاقات الانسجام التي كنا معتادين عليها في التمارين طوال الفترة الماضية، ثم تأتي اللحظة المنتظرة.
أتذكر أنني ما إن وقفت على المسرح حتى شعرت بأن الكل ينتظر ماذا أقول وأعينهم مصوبة تجاهي، لم أكن قد تعلمت طريقة النظر الرأسية التي اتبعتها لاحقاً حتى يشعر كل من يحضر المسرحية أنني أوجه كلامي ونظري إليه دون أن أسلط النظر على أحد بعينه، إحدى الحيل المسرحية التي اكتسبتها من زملائي فيما بعد مر على هذه اللحظة قرابة عشرة أعوام هذا الإحساس لا يفارقني أبداً يتكرر كلما عدت للمسرح ممثلاً أو حتى زائراً، إلا أن المرة الأولى التي وقفت فيها على المسرح لا تُنسى ولا أنسى كيف كنت بعد انتهاء العرض أشعرُ بالتعب وبحة الصوت رغم أن العرض ليس أكثر جهداً ولا وقتاً من أيام التمارين.