يستمر الإنسان مبدعاً في العديد من مجالات الحياة، ونال الإبداع المكتوب والمقروء مكانة مميزة في الحضارات بتنوع لغاتها، لما له من أهداف متعددة، منها المساهمة في تطوير الحياة البشرية، والسعي الدؤوب نحو أنسنة المجتمعات.
وتعد الرواية إحدى الأجناس الأدبية المؤثرة المساهمة بقوة في ذلك، لما للمكانة التي حظيت بها بين الكاتب والقارئ، إذ تلازم الرواية الإنسان باستمرار ووفاء منذ الأزمنة الحديثة ولقد استحوذ عليها شغف المعرفة، الذي يعتبره الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل جوهر الروحانية الأوربية، وذلك من أجل أن تسبر حياة الإنسان الملموسة وتحميها من نسيان الوجود.
وتعد الرواية التاريخية شكلاً من أشكال الرواية الحديثة، التي تعبّر وبوضوح عن التحول لدى المجتمعات والإنسان، وتحمل في طياتها فكرة تساهم في وضع تصور عما جرى بالأمس البعيد والمتوسط، من خلال سرد التاريخ وإعمال خيال الروائي في حدث جرى بالماضي، وقد لقت الرواية التاريخية نجاحاً منذ ظهورها في القرن التاسع عشر، في بريطانيا على يد كاتبها الأسكتلندي والتر سكوت، وامتد تأثيرها من اللغة الإنجليزية إلى اللغتين الفرنسية والروسية، حيث كتب في فرنسا الكسندر دوماس الأب وفيكتور هيجو العديد من الروايات في الفترة المضطربة من تاريخ أوروبا، كما كتب في روسيا ليو تولستوي روايته الشهرية الحرب والسلم التي مثلت ملحمة كبرى تتحدث عن الحرب الفرنسية الروسية ومحاولة احتلال نابليون لروسيا.
أما الرواية العربية التاريخية فمنذ بدايتها في نهاية القرن التاسع عشر ارتبطت بعدة عوامل؛ منها السعي الحثيث نحو تشجيع الفرد العربي للقراءة، وذلك عبر تذكيره بأمجاد الأمة العربية، ويعتبر جورجي زيدان أباً رائداً وساعياً نحو ذلك عبر واحد وعشرون مؤلفاً روائياً، حمل بصمته التي تحمل أهدافاً خلدت هذه الأعمال واستمر من بعده كتاب مبدعون، أمثال توفيق الحكيم ونجيب محفوظ، وقد كان عامل تيار مقاومة الاحتلال دوراً كبيراً في الرواية التاريخية العربية.
وتبقى الرواية التاريخية لها أهمية كبيرة، إذ تعتبر نافذة مشرعة للقارئ، يطل من خلالها على زمن يبعد ويقرب حسب المواضيع التي تتناولها، وتشجع للولوج أكثر مبحرة عبر خيال كاتبها وجهده الفاحص لأدق التفاصيل، نحو أزمنة تحتوي في ثناياها قواعد وأساسات الماضيين، حيث نحن الآن فوقها وبفضلها وتخبرنا ماذا جرى؟ وكيف جرى؟ ولماذا جرى؟ بالطبع لن تستخدم الرواية التاريخية كدليل لشيء ما، لكن حتماً سوف تنير لنا درباً نحو هذا الدليل أو ذاك.
ففي رواية جورجي زيدان فتح الأندلس، يفتح لنا عبر نافذة الرواية التاريخية مشهداً بانورامياً نشاهد من خلالها، ما ينطق به غلاف الرواية في تكملة العنوان (رواية تاريخية تتضمن تاريخ إسبانيا قبيل الفتح الإسلامي ووصف أحوالها وفتحها على يد طارق بن زياد ومقتل رودريك ملك القوط) إذ تسافر الرواية بالقارئ نحو الأندلس وطليطلة وتثريه بالمعلومات عن طبيعة تكوينها، وتعرف بحكامها القوط وهم من القبائل الجرمانية القادمة من أعالي الهند إلى أوربا، طلباً للرعي وللمعاش فسطو على الحكم في إسبانيا وغيرها من المناطق الأوربية في فترة من الفترات، قبل أن يستولي عليها العرب، ثم تسهب الرواية عن الأسباب التي أدت لنجاح دخول المسلمين للأندلس وفتحها.
وكما تحدث جورجي زيدان عن فتح الأندلس، تحدث الروائي واسيني الأعرج في روايته الغجر يحبون أيضاً عن الأندلس. من خلال شعبها المُهْجّر منها بسبب اعتناقهم للإسلام وقت سقوطها. رغم أن الرواية تتحدث عبر زمنها حيث يفضي إلى الفترة الأخيرة من الاستعمار الفرنسي للجزائر إلا أنها تتسلل عبر شخوصها لأزمنة ماضية أعمق وأعمق، فالكاتب فتح نافذة عبر شخصية بطل الرواية خوسيه نحو معاناة الأندلسيين. خوسيه ينحدر من أصل أندلسي، ويقطن وهران الجزائرية التي احتضنت دفعة من المُهْجّرين.
تتحدث الرواية في جزء منها عن ظروف الهجرة المأساوية والمعاناة التي عانوها أهل الأندلس، حتى أطلق عليهم لفظة (الكاركولا) وتعني الحلزون، الذي يحمل على ظهره أمتعته كناية بالهجرة التي تعني ذهاب بلا عودة في ذاك الزمان، وبقيت هذه اللفظة بما تحتويه من معاناة وسخرية لفظة عالقة على كل من ينحدر من أصل أندلسي.
وكعادة الرواية التاريخية تشرع لقارئيها نوافذ وتهيئ لهم أبواب ربما تكون فاتحة نحو بحث تاريخي يحيي ما هو بحاجة لحياة جديدة.
** **
- حسين الأمير