إنَّ ما تقضي به العجبَ إذا نَفَذَ إلى أسماعِكَ، ووعاهُ فؤادُكَ أنَّ سلوكَ الفردِ منَّا قد يتغيرُ تَبعًا للغةِ التي يتحدثُها، إلَّا إذا وُجد سلطانٌ أعظم و أقوى من سلطانِ اللغةِ، وهذا السلطانُ لا يكونُ إلا سلطانَ الدِّينِ، فهو الذي يمنعُكَ من سلوكٍ غيرِ مَرضيٍّ يتعارضُ مع المبادئِ، و قد تكلّم علماءُ العربيةِ عن طبائعِ العربِ من خلالِ نصوصِ لغاتِهم، استنطقوهَا واكتشفوا غَوْرَهَا، وهذا باد في نصوصهم الشعريةِ والنثريةِ، التي تعدُ الذخيرةَ الأدبيةَ، والعلميةَ، والاجتماعيةَ، والثقافيةَ، المجلّيةَ لجوانبِ الحياةِ العربيةِ، وسلوكهم تجاهَ الرسومِ والأطلالِ، وما تفرزهُ وقائعهم اليوميةِ وكيفَ انفعلوا وتفاعلوا، وطبقًا لذلكَ» فالأدبُ الجاهليُّ وليدُ الصحراءِ، بيئةِ العربِ الطبيعيةِ والاجتماعيةِ، فهذه الصحراءُ بأرضها وسمائها، بحيوانها ووحشها، بجدْبها وشظَفها، بقيظِها وبردها، بخشونتها وسهولتها، بكل ما يجري في حياتِها من غزو وحرب، ونهب وسلب، هي التي شكلتْ سلوكَ عربِ الجاهليةِ، فمنها استمدَّ نظام معيشته، وأسلوب حياته، كما استمدَّ عقليته وعواطفه، وأخلاقه التي يعتز بها ويفخر بها غاية الفخر. ()
فمن خلاله هذا وغيره -أيضاً- تَلْمَس دماثةَ أخلاق العربِ، وبساطتهم التعبيرية بألفاظ يخالها القارئ ضاربةً في الغرابةِ المعنويةِ، والخشونةِ اللفظيةِ، وقد بلغَ الخليل في هذا الشأنِ حدًا لا نعلم أحدا بلغه بعده، قال ابن جني في خصائصه ( قال الخليلُ: كأنهم توهموا في صوت الجندب استطالةً ومدًا فقالوا: صَرَّ، وتوهموا في صوت البازي تقطيعًا فقالوا: صرصر. (2)
وهذا الحسُّ اللغويُّ المرهفٌ من الخليل بن أحمد، الذي نشأَ على لبان الفصاحة، وكان قريباً من أزمنة السليقة الصافية، ولّدَ للإنسانية طرحاً راقياً، وفكراً راجحاً، وإنتاجاً سابقاً لعصره وعصر من تلاه، وهذا ما يؤكد أهمية القرب من النبع الأول للغة، فعلى قدر القرب يكون الإبداع، وبقدر البعد تزداد الضبابية في الطرح، وربما تعدى إلى ما هو أبعد من ذلك.
هذا الذي قصصتُ عليك يشدُّك إلى بحر لُجِّيٍّ من السلوكيات في المجتمعات -الفرنسية نموذجاً- تأمَّل قليلاً لترى أن أكثر متحدثي الفرنسية تتماشى أخلاقهم مع السلوك المتمثل في اللغة الفرنسية، حتى إنك لم تعد تدري أفرنسي هو أم غيره ؟ إلا من اعتصم بحبل الدِّين وخلقه الكريم.
إن المستعمرَ استطاع أن يفْرِضَ لغته من خلال تدريسه، وكان على علمٍ أنَّ الأداةَ اللغويةَ سوف تقود الأجيال القادمة إلى حيث أراد وخَطَّط، ولو أراد أن يفرض على أجدادنا سلوكه المنحرفَ وخلقه المعوج فرضًا ما كان بمقدوره أن يفعل ولا أن تنجح خطته، ولكنَّه رَسَم ونَظَر إلى المستقبل البعيد، ولم يأبه بالحاضر الذي أعجزه.
وفي هذا المضمار، عملَ أحد علماء اللغة الأمريكيين دراسة، فاستنتج أن اللغةَ تمثل جانباً كبيراً من جوانب السلوك الاجتماعي، وأنك إذا أردت أن تعرف خلق مجتمع فانظر إلى لغته، وصنَّف مؤَلفًّا تُرجم إلى العربية باسم «عبر منظار اللغة» قال في كتابه هذا: إن المجتمعَ الإيطاليَّ أخبثُ المجتمعات خُلقًا وسلوكًا وأثرُ ذلك في لسانهم. (1) ذلك لأن لغتهم التي يتعاملون معها في الشوارع والأسواق مليئةٌ بالألفاظ الخبيثة المشينة التي تخدش الحياءَ، ولولا أن هذا في سلوكهم ما وُجد في لغتهم، وبفضل الله -تعالى- ثم حكمة العرب وتَخيُّرهم أحسن الألفاظ أنهم كانوا يوارون الشيء المستقبح بأحسن الألفاظ حتى إنه ليُخيَّل إليك أنه شيء عظيم، ومن ذاك أن كلمة «المرحاض» تطلق على المكان الذي تُقضى فيه الحاجة وإنهم تَعافوا استعمالها فقالوا موارين لها «دورة المياه» و»الحمَّام» وغير ذلك، ومنه أيضا قالوا: الغائط، للعذرة، وإنما الغائط في أصل لغتهم هو المطمئن من الأرض، ولذلك جاءت أخلاقهم حسنة، وما رأيت من تعلم العربية وتأثر بها إلا أخذ جانبًا من جوانب أخلاق العرب واعتنق طبعاً من طبائعهم ورضي الله عن الإمام الشافعي لمَّا قال: مَن تعلم العربية رقَّ طبعُه.
وقد صوَّر العالِمُ الأمريكي ذاك أنَّ عقلَ الشعب على قدر مستوى لغتهم، وضرب مثلاً للفرنسية إذ قال: الفرنسيون لا عقل لهم. (2) ؛ لأن العقل في اللغة الفرنسية ليس له مصطلح معروف وإنما يُطلقون عليه أحياناً لفظ الروح وآخر الفكر، وعبقريةُ العربيةِ فائقةٌ في هذا الجانب؛ إذ ما من شيء إلا وضَعَتْ له العرب مصطلحاً، وحين يَرجع الناس إلى العربية، يجدون أن العرب قد تكلموا بمثل هذه المعاني من قديم الزمان ولم تكن عندهم العلوم الحديثة، والعربية هي أقدر لغة في العالم تمثل هذا الجانبَ.
بهذا الذي نقشتُه لك بأن لك أنَّ القدماءَ كانوا حكماء جداً حين رفضوا أن يُعَلِّموا أولادهم ألْسُنَ غيرهم إلا لهدف وبَعْدَ إتقانه لغته، وأعظمُ هدفِهم كان نشرُ دينهم، وتعريفُ الناس لسانَهم وشرائعَهم، والحفاظ على هويتهم، من أجل ذلك أرى أننا، لن نُحْدثَ تقدمًا، ما دمنا نستقبلُ اللغات الأخرى في مناهجنا التعليمية دون أن نتنبه إلى ضعف منظومة تعليم اللغة العربية، التي تشكل الوعاء الشرعي، والفكري، والأخلاقي، والثقافي، والاجتماعي، والوجداني، والاقتصادي، والنفسي، والفني، والحضاري، حتى وقعنا في حرج جاء نتيجة لجهلنا بمفردات التطور الحضاري، أدى بنا إلى تكوين حالة ضبابية تقضي بغرابة اللسان الأصلي، وينجر معه أن يكون المتحدث به غريبًا، فكانت المخرجات محرجة، فلم يُنْهِ عمرو كتابَه، ولم يطِر زيدٌ للمريخ، فزاحم الفرعُ (اللغة الرافدة) ما كان أصلًا (اللغة الأصلية)، ومع مرور الوقت: صار الدقيق خبزًا. واستقبلنا لغات قوية في محيطها، دون أرضية مهيئة لنقل المعرفة بشكل جيد متقن، ابتداء بالناقل ومدى أهليته، والبيئة ومدى استعدادها، والأدوات المساعدة ومدى جدواها ووفرتها التامة، وقياس القاموس المعرفي السابق قبل الإضافة والحذف ومدى استيعاب المُسْتَقْبِل له، وكل ذلك عبر منظومة واعية تنطلق من رؤى صنَّاع الحضارة العربية والإسلامية في أزهى عصورها.
إن الاستعمار بشتى أضرابه عقيم، وما من دولة من الدول القاهرة سيطرت على بلد إلا أسرعَتْ في نشر لغتها بين ربوع المجتمع، ولم يكن ذلك عبثاً، ولكنَّني في سؤال دائم مع نفسي: متى تُدرك هذه الحقيقة لدى أهل اللسان العربي؟!
ثم أقول: إنه لا يرجى ممن تشرَّبت ثقافته وفِكرُه ورُؤاه من ثقافة غيره وفكره أن يأتيَ بما يخالف ما استقر عنده.
... ... ... ... ...
(1) انظر: عبر منظار اللغة، غادي دويتشر،، ترجمة: حنان عبد المحسن مظفر، ص: 20 ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب- الكويت 2015م
(2) انظر: المصدر السابق، ص: 29.
** **
- عمر بن عبدالله الأنصاري