يُعدُّ كتاب «معجم تاريخ التُّراث الإسلاميّ في مكتبات العالم»(1) مصدرًا مهمًّا للباحثين عن المخطوطات، ومَنهلا رَوَاءً لطلبة التَّحقيق، وذوي العناية والشَّأن بالتُّراث؛ للمجهود الجبَّار الذي بُذِل فيه لاستقصاء الكتب العربيَّة والتُّركيَّة والفارسيَّة المخطوطة والمطبوعة في مكتبات العالَم التي تيسَّر لمؤلِّفَيه -جزاهما الله كلَّ خيرٍ، وجعل ما قدَّماه في ميزان حسناتهما- الاطِّلاع عليها من بداية التَّدوين إلى عصرنا الحاضر.
والكتاب هذا من تأليف: علي الرِّضا قره بلوطـ، وأحمد طوران قره بلوط، صادرٌ عن دار العقبة، قيصري- تركيا، سنة 1422هـ/ 2001م. وهو في ستَّة أجزاء برقم متسلسل، سادسها فهارس، يضمُّ تسعةً وأربعينَ ألف عنوانٍ بين كتاب ورسالة وديوان، مُوزَّعًا على أحدَ عشرَ ألفًا ومئةٍ وستَّةٍ وثلاثين مؤلِّفًا، ويبلغ مجموع النُّسخ لتلك المؤلَّفات ثلاثمئةٍ وخمسينَ ألف نسخةٍ(2).
وممَّا امتاز به هذا الكتاب إيراد ترجمة موجزة لكلّ مؤلِّف، مُذيِّلًا إيَّاها بالإشارة إلى اسم شهرة المؤلِّف بعبارة (المعروف بـ)، تلك العبارة التي استشكلت على بعض الباحثين لجملة أسباب كما سيأتي بيانها، فدفعنا هذا الإشكال إلى استقراء هذه العبارة في الكتاب كلِّه؛ للوقوف على حقيقتها، وكشف ما اكتنفها من الالتباس والغموض؛ فكانت هذه المقالة التي نعتناها بـ (الباء البينيَّة)؛ لقرار مصطلح «البينيَّة» في منظومة مصطلحات علم التَّجويد، دلالةً على الأصوات التي تكون بين الرّخوة والشَّديدة؛ فتتشابه مرجعيَّة سبب التَّسمية في كلا الموضعين؛ لأنَّ البينيَّة فيهما نابعة من توسّط شيء بين شيئين. فضلًا عن تيسير إشاعة المصطلح الجديد لاعتماده على تسمية سابقة راسخة.
المسألة الأولى: تعريف وبيان
يمكننا أن نُعرِّف الباء البينيَّة بأنَّها:
(الباء المتوسِّطة بين كلمة «المعروف» والاسم الأعجميّ المعروف به العَلَمُ المترجَم له)
فقولنا: (الباء المتوسطة) جنسٌ يُخرِجُ الباء المتصدِّرة والمتطرِّفة. و(بين كلمة «المعروف» والاسم الأعجميّ) قيدٌ لنوع التَّوسُّط، ومُخرجٌ ما عدا ذلك النَّوع. و(الاسم الأعجميّ) احترازٌ عن الاسم العربيّ، فلا ينضوي تحت ما نبحثه ههنا؛ لوضوح مفهومه، وظهور حقيقته، فلا يُشكل أمره على أحد.
وقولنا: (المعروف به العَلَمُ المترجَم له) بيانٌ لموضع الإتيان بها، وفصلٌ يُخرجُ (المعروف به اسمُ الكتاب)؛ لورود نظير هذه مع أسماء بعض الكتب المعروفة بأسماء شهرتها، فتجد أسماءَ هذه الكتب مذيَّلةً بعبارة: (المعروف بكذا). فليس ذا من مقاصدنا في هذه المقالة.
المسألة الثَّانية: إشكال ودوافع
يتلخَّص مورد الإشكال والدَّافع إلى الالتباس في عبارة (المعروف بـ)، بتعذُّر أو تعسُّر معرفة حقيقة هذه الباء: أهي جارَّة متعلِّقة بكلمة المعروف السَّابقة لها، أم أصليَّة من بنية الاسم الأعجميّ اللَّاحق لها؟
أمَّا أسباب هذا الإشكال ومسوِّغات التَّشكيك في أمر هذه الباء، على الرَّغم من وضوح المسألة فيها نحويًّا، فهي:
أولًا: عُجمة الأسماء المردِفة لهذه العبارة في تراجم هذه الأعلام؛ فيتعذَّر تمييزها على الباحثين، والفصل بين ما هو من أصل بنية الاسم وما هو زائد عليه، ولا سيَّما الذين لا يُجيدون التُّركيَّة والفارسيَّة.
ثانيًا: ورود بعض هذه الأسماء في متن المخطوط، أو فهرس المكتبة بصورة تُوهِم أنَّ الباء من بنيتها، مغايرة لما هو مدوَّن في «معجم تاريخ التّراث الإسلاميّ في مكتبات العالم»، ومن أمثلة ذلك اسم: «سليمان بن أحمد الرُّوميّ العثمانيّ الحنفيّ المدرِّس النَّحويّ المعروف بيخشي بيك عاش في القرن 12هـ تقريباً»، الذي ورد بهذا النَّص في هذا المعجم(3). أمَّا في متن المخطوط فكان نصُّه هو: «سليمان بن أحمد المدرِّس بيخشي بيك»(4). وبمثله في فهرس المكتبة(5)، أي: المدرِّس في يخشي بيك، ولعلَّه عُرِفَ به؛ لملازمته التَّدريس فيه حتى غدا مشهورًا به لدى النَّاس، فيظنُّ الظَّانُّ أنَّ «بيخشي بيك» بدلٌ من «المدرِّس»، إذ لا وجود لكلمة «المعروف» بينهما؛ لتَصرِفَ دلالة الباء على التَّعلُّق بها؛ فيتردَّد لذلك في حقيقة هذه الباء بين الجرِّ والأصالة!
ثالثًا: توهُّم التَّضمين في كلمة (المعروف)، وحملها على أشباهها في بابتها ممَّا يتعدَّى إلى المفعول الأول مطلقًا، وإلى الثَّاني مطلقًا تارةً، وبحرفٍ تارةً أخرى، نحو: المسمَّى، والمكنى، والمدعوّ.
رابعًا: احتمال وقوع الخطأ من المؤلِّفَينِ؛ لثلاثة أسباب:
1. لأنَّهما أعجميَّان وليست العربيَّةُ سليقتَهما؛ فإذا كان إمكان الخطأ واردًا على العربيِّ، فوروده على الأعجميّ من باب أولى!
2. وقوع اللَّحن في كتابهما في ما هو أوضح من مسألة هذه الباء، أقصد بذلك عنوان الكتاب: (معجم التَّاريخ التُّراث الإسلاميّ في مكتبات العالم)، الذي جمع فيه بين «أل» التَّعريف والإضافة، بقوله: (التَّاريخ التُّراث)، وهو لا يجوز في العربيَّة إلَّا في مواضعَ مطَّردةٍ ليس هذا منها!
3. ورود هذه العبارة في المعجم مجرَّدة من الباء على صورة (المعروف كذا) ، نحو: «مير إبراهيم بيك بن سعيد الإستانبولي العثماني الفلكي المعروف طوراق باشا زاده المتوفَّى بإستانبول سنة 1248/1832»(6).
المسألة الثَّالثة: تصحيح وتعليل
تحقَّق لنا بما لا ريب فيه أنَّ الصَّواب في هذه الباء أنَّها جارَّة متعلِّقة بكلمة «المعروف» السَّابقة لها؛ لما يأتي:
أولًا: اطِّراح الباء ممَّا بعد كلمة «المعروف» غير سائغٍ لغةً؛ لأنَّ الفعل «عرف» ممَّا يتعدَّى إلى مفعول واحد، فإذا اشتُقَّ منه اسم مفعول، استتر فيه مفعوله على أنَّه نائبٌ عن الفاعل، فلا وجه لإسقاط الخافض (الباء) بعد اسم المفعول (المعروف)؛ لأنَّه يقتضي حينئذٍ أن يكون متعدِّيا إلى مفعولين اثنين، وليس هو من ذلك في شيء. ولا يسوغ تقدير إسقاطه؛ لاحتياجه إلى سماعٍ حيث لا سماعَ فيه!
ثانيًا: اطِّراد منهج المؤلِّفَينِ في استعمال هذه الباء متعلِّقةً بكلمة (المعروف) في أكثر من خمسة آلافِ موضعٍ، جاءت جارَّة بلا شكٍّ ولا ريبٍ فيها؛ لتلوِّها بأسماء عربيَّة لا التباس معها في حقيقتها. فلِمَ لا تُحمَل الباء في جميع مواضع ورودها على الجارَّة طردًا للباب على وتيرة واحدة؟! ثمَّ جعلُ الباء جارَّةً مع الأسماء العربيَّة، وأصليةً مع الأسماء الأعجميَّة تفريقٌ بلا دليل ولا مسوِّغ!
ثالثًا: خلوُّ المعجمات التُّركيَّة والفارسيَّة من جذور هذه الأسماء أو صيغها على القول بكون الباء من بنيتها، وحتى لو وجِدتْ جذورها وصيغها -على نُدرتها- لكانت بمعانٍ لا صلةَ لها بهذه الأسماء البتةَ!
رابعًا: شيوع التَّسمية بهذه الأسماء مجرَّدةً من الباء، وكثرة تداولها واستعمالها، وانعدام تلك التي يُتوهَّم تصدُّرها بالباء، في اللُّغتين التُّركيَّة والفارسيَّة، فيما وقفنا عليه من هذه الأعلام.
... ... ... ... ...
الهوامش:
(1) النَّص العربيّ للعنوان هو: (معجم التَّاريخ التُّراث الإسلاميّ في مكتبات العالم)، هكذا جمعًا بين «أل» التَّعريف والإضافة في (التَّاريخ التُّراث)، وهو لحنٌ ظاهرٌ.
(2) انظر: معجم تاريخ التُّراث الإسلاميّ في مكتبات العالم: مقدِّمة المؤلفَين.
(3) انظر: معجم تاريخ التُّراث الإسلاميّ في مكتبات العالم:2/1217.
(4) انظر: زبدة الأنظار في حلِّ عقد إظهار الأسرار للبركويّ، مخطوط بمكتبة محمد عاصم كوبرلى، تحت الرَّقم (584).
(5) انظر: فهرس مخطوطات مكتبة كوبرلى:3/269.
(6) انظر: معجم تاريخ التُّراث الإسلاميّ في مكتبات العالم:1/21.
** **
صفاء صابر مجيد البياتي - العراق، كركوك