تشتق الرواية الرسائلية من جنسين أدبيين عريقين: أحدهما قديم وهو الرسالة, والآخر حديث وهو الرواية؛ وعلى ذلك فالرواية الرسائلية نص سردي مفعم بالحكي, والسرد, والوصف, والحوار, أو هي مجموعة رسائل تسلك مسلكاً روائياً, ومن هنا تأتي الرواية الرسائلية على عدة أشكال, فإما أن تكون رسالة, وإما أن تكون رسالتين فأكثر, وإما أن تكون فصلاً, أو فصولاً رسائلية, وإما أن تشتمل على مجموعة من الرسائل, وعُرفت الرواية الرسائلية في الأوساط الغربية قبل قرنين ونصف من الزمن تقريباً, وأطلق عليها بعضهم (الرواية التراسلية), كما نعتها آخرون بـ (المراسلات القصصية), وإن كان هذا الوصف في نظرنا لا يصدق على الرواية الرسائلية؛ ذلك أنه ثمة فارق بين الرسالة حين يغلفها القص, والرسالة حين تستأثر بالخطاب الروائي, فتصبح ناطقة به, ومعبرة عنه.
وتعد الرواية الرسائلية السعودية إضافة نوعية إلى قيمة الرواية الرسائلية العربية, وذلك من وجوه عدة: فهي قديمة, ومتجددة, ومتنوعة, ولو بحثنا في النماذج العربية الأولى لوجدنا الرواية الرسائلية السعودية حاضرة بقوة؛ فبعد الروايتين المصريتين: (إبريسم أو غرام حائر) لمحمد عبد الحليم عبد الله, و(شيء في صدري) لإحسان عبد القدوس, اللتين أبدعتا في العقد الثالث, والخامس من القرن الماضي, تطالعنا الرواية الرسائلية السعودية (جزء من حلم) لعبد الله عبد الرحمن الجفري التي نسجت عام (1984م), وكتبها المؤلف على شكل رسالة تقص فيها البطلة معاناتها مع زوجها, وقد بدأت الرواية بشكل ترسلي على هذا النحو: «التقيت بكَ رؤية, وتجدد اللقاء هنا في خيالي وتصوري, كتبتُ لكَ, لأكتبُ عنكَ. اليوم أنا أكتبُ لكَ, لم أجرؤ على قول كل ما قلته في نفسي عنك, فأنت مكابر وقد تغضب مني ...».
ثم يأتي بعد ذلك غازي القصيبي؛ ليقدم لنا عمله الموسوم بـ (الزهايمر), حيث يقوم هذا العمل على شكل رسائل كتبها شخص إلى زوجته بعد أن شعر بأنه يعاني من مرض الشيخوخة (الزهايمر), ومما جاء في تلك الرواية: «عزيزتي, كان علي أن أخبرك بما حدث بمجرد علمي, ومتى علمت؟ قبل شهور, أو ربما قبل سنة التفاصيل الصغيرة بدأت تضيع, وقريباً ستضيع التفاصيل الكبيرة ...».
ومما يذكر في هذا الصدد رواية (أنثى الرغبة) لبدرية البليطيح, إذ قامت فصولها على شكل رسائل تروي معاناة بطلة الرواية (سارة) التي تنقل شكواها, وآمالها, وآلامها في أوراق ومذكرات, كانت تكتبها مخاطبة أمها التي حال الفراق والبعد بينهما, ثم جمَعَت تلك الرسائل في ظرف واحد, وسلّمته صديقتها التي سافرت إلى بلد أمها, ومما ورد فيها: «ها أنا ذا يا نبض أحرفي أكتب لك كما عاهدت نفسي, سأكتب لك قصتي بكامل تفاصيلها المملة ..», وقد تسلك الروايات الرسائلية السعودية مسلكاً رسائلياً أقل, حيث نجد بعض النماذج مشتملة على شكل رسائل متناثرة في الرواية, على نحو ما فعله عبده خال في روايته (مدن تأكل العشب).
ولعل من آخر ما توصلت إليه الرواية الرسائلية السعودية احتكاكها بالأثر الإلكتروني الجديد, وتعد رواية (بنات الرياض) لرجاء الصانع رائدة في ذلك, ثم نجد الروايات تأخذ بالتطور شيئاً فشيئاً, متأثرة بالعالم الرقمي الراهن, على نحو ما جاء في رواية (مشاعر آيفونية) لبدرية البليطيح, حيث قامت بتوظيف الجهاز الذكي (الآيفون), والإفادة من بعض الرموز المستوحاة من الثقافة الرقمية, كما في قولها مثلاً: «@ لايشبهني أحد @ اسم أو (نك نيم) بالخط العريض الملون, وتحته رسالة, أو (توبيك) لا يقبل النقاش, أو المراوغة: لطفاً أحتاج للخلوة بنفسي, و(اللبيب بالإشارة يفهم)..»
وهناك نماذج روائية سعودية كثيرة من هذا القبيل,ولا يمكن الإحاطة بها في هذا المقال, غير أنه يمكن القول: إن الرواية الرسائلية السعودية ما زالت بحاجة إلى مزيد عناية واهتمام تأسيساً, ودرساً, ونقداً, وإن تركيز الدرس النقدي الحديث على تلك النماذج, أمر ربما يبعث على مزيد من التطوير والتجديد في الإبداع الروائي ونقده.
** **
- د. فهد إبراهيم البكر