- 1 -
نملك في (أرشيفنا) النقدي القديم والحديث الكثيرَ من الإشارات النقدية التي ضمّنها أصحابها (بصيغة التعميم) أحكاماً قطعية بالضعف على جانبٍ من المنتج الأدبي، لا يمكن فهمها اليوم إلا بوصفها أحكاماً سُلْطِيّة، تستمدّ مشروعيتها من رمزية الناقد أو من مركزية معينة في تكويننا الثقافي، من ذلك – على سبيل المثال -:
1. الحكم العام على أدب المرأة بالضعف، وهو حكمٌ معروف، له أصلٌ قديمٌ في كثير من الثقافات.
2. الحكم العام بالضعف على الأدب المنتج في المنعطفات التجديدية، كما حصل مع ظهور فن الموشح قديماً وشعر التفعيلة حديثاً، وقد أشارت نازك الملائكة في كتابها «قضايا الشعر المعاصر» إلى أنّ أحكام الضعف والكسل وضحالة الموهبة الشعرية كانت أول ما واجههم بها خصوم شعر التفعيلة (ط11، 2000م، ص52).
3. الحكم العام بالضعف على الأدب في مرحلة معينة عند الموازنة بينه وبين الأدب المنتج في مرحلة سابقة، وهنا تحديداً يكون أدب الشباب الهدف الأول لهذه الأحكام التعميمية، حتى لو خُفّفت بكلمة (أكثر) أو (غالب) كما في قول أحمد حسن الزيات: «وأكثر المزاولين اليوم لصناعة القلم متطفلون عليها، أغراهم رخص المداد وسهولة النشر»!
4. الحكم العام بالضعف على شكلٍ أدبي بعينه، ولعل الرواية أفضل مثالٍ هنا؛ لكونها أكثر الأشكال الأدبية تعرضاً للرفض الثقافي. يشير ديدرو – على سبيل المثال – إلى أنّ الناس كانوا يعنون بكلمة رواية إذا أطلقت في القرن الثامن عشر وما قبله نسيجاً من الحوادث التافهة المضرة بالذوق والآداب العامة (تاريخ الرواية الحديثة، ص27)، وقد كان الضعف الفني أحد العوامل المستثمرة في هذا الرفض، وهنا أستدعي إشارة إيان واط إلى أن الرواية عُدّت خلال القرن الثامن عشر وعلى نطاق واسع مثالاً للنوع المغشوش من الكتابة (نشوء الرواية، ص50).
- 2 -
هي إذن أحكام تعميمية سُلْطِيّة، لا ترتبط بالنص من الناحية الفنية، ولا بمنطلقات التجربة الأدبية وأدواتها وغاياتها؛ ولا تأتي – غالباً - في سياقٍ نقدي منهجي، بل تأتي معبرة عن موقف رافض لشكلٍ أدبي بعينه، أو لمضامين معينة، أو لجنس المبدع، أو لغالب ما يُنتج من أدبٍ في مرحلة من المراحل، ولكي تُعتّم هذا الموقفَ الحاد تأتي مغلّفةً بغلاف الفن، وتُقدّم نفسها بوصفها مقولة نقدية واعية، ولأنها تصدر في الغالب عن رمز أدبي أو نقدي، وتستند إلى نسق ثقافي، فإنها تحظى بمساحة واسعة من (التقبّل)، ثم ترتقي بالتقادم إلى درجة (القبول)!
أمام هذه الأحكام يمكن أن نلحظ الآتي:
- وجودها في جميع الثقافات والآداب، فما من ثقافة وإلا وظهر فيها هذا النوع من الأحكام المؤسسة على معيارية حادة غير مسوَّغة منهجياً أو نظرياً بما يكفي، وما دام الأمر كذلك فلا معنى للتعامل معها وكأنها معبّرة عن حقيقة ظاهرة أدبية، أو نشاط أدبي في ثقافة أو مرحلة معينة.
- افتقارها إلى المصداقية؛ لكونها واحدة من أهم الأدوات التي استخدمت لرفض التجديد ومنازعة أهله، وقد سبقت الإشارة إلى شهادة نازك الملائكة، ويمكن أن أعزّزها هنا بشهادة نزار قباني في كتابه «قصتي مع الشعر» حول الطريقة التي استُقْبِل بها ديوانه الأول «قالت لي السمراء».
- افتقارها إلى الموضوعية؛ لأنها – كما أسلفت - لا تباشر النص أو التجربة، بل هي متموقفة سلباً على طول الخط من شكل الإبداع أو جنس المبدع أو زمنه، وهي تصدر – غالباً – عن ذات متضخّمة، ترى أنها صاحبة حق في قبول الأدب أو رفضه، فالعقاد – مثلاً - الذي أنكر شاعرية شوقي، وبارك – على غير قناعة – الشعر المرسل، هو عينه من وقف في وجه الشعر الحر ووصفه بالمهزلة، وأخرجه من الشعر، واستخدم سلطته الثقافية لإيقاف تمدّده في المشهد الثقافي المصري، إلى حدّ التهديد بالاستقالة من رئاسة لجنة الشعر إن سُمِح للشاعرين أحمد مصطفى حجازي وصلاح عبدالصبور وغيرهما بالمشاركة في مهرجان دمشق، وهذا ما حصل فعلاً، فقد طُلِب منهما عدم المشاركة بعد وصولهما دمشق، وحين ذكَّر هؤلاء الشباب بأن الزمن زمنهم، ردّ العقاد – فيما ينقل بعضهم – بقوله: «بل هم الذين يعيشون في زمن العقاد»!
- 3 -
إذا انتبهنا إلى أنّ هذه الأحكام:
- لا تأتي في الغالب نتيجة لممارسة نقدية منهجية.
- ولا ترتبط بثقافة معينة ولا بمرحلة زمنية محددة.
- وأنها استخدمت كثيراً لمواجهة محاولات التجديد في الأدب، بما في ذلك ولادة أشكال أو مضامين أو مواهب أدبية..
فإنه لا يبقى فيها ما يستحق النظر الموضوعي؛ لذلك وصفتُها في المستهل بالسُلْطِيّة، التي لا تستمد وجودها إلا من القوة، ممثلةً برمزية الناقد أو إحدى مركزيات الثقافة.
هل يعني هذا نفيَ وجود الضعف أو حتى غلبته؟
الإجابة المؤكدة: لا !
لكنها محاولة لإثبات ضعف هذه الأحكام أولاً وأخيراً، ووضعها في مكانها المناسب، بوصفها أحكاماً (متغلّبة) لا علاقة لها بالأدب ولا بالمنهج ولا بالموضوعية!
** **
- د. خالد الرفاعي