جميع المصادر تتفق على أن عكاظ سوق من أسواق العرب، يجتمعون فيها ويتنافرون ويتفاخرون، ويبيعون ويشترون قبل وصلوهم إلى مكة للحج، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم استثمر اجتماع العرب في عكاظ فذهب إليها داعياً إلى الإسلام، لكن المصادر تختلف في نهاية السوق، فمنهم من يقول إنها انتهت بالإسلام، وهذا القول تنقصه الدقة لعدم توفر أدلة إسلامية تحرّمه، والقول الثاني أن عكاظ استمر حتى عام 129هـ، حسب قول ابن الكلبي: «وكانت هذه الأسواق بعكاظ ومجنَّة وذي المجاز قائمةً في الإسلام حتَّى كان حديثًا من الدَّهر، فأمَّا عكاظ فإنَّما تركت عام خرجت الحروريَّة بمكَّة مع أبي حمزة المختار بن عوف الأزْدي الإباضي في سنة تسْعٍ وعشرين ومائة، فخاف النَّاس أن يُنهبوا، وخافوا الفتنة، فتركت حتَّى الآن، ثمَّ ترُكت مجنَّة وذو المجاز بعد ذلك، واستَغْنوا بالأسواق بمكَّة ومنى وعرفة». (أخبار مكة، للأزرقي: ج1/283. وانظر معجم ما استعجم للبكري: ج3/959).
وفي عصرنا الزاهر، طمح الملك فيصل - رحمه الله - بحنكته وبُعد نظره إلى إحياء سوق عكاظ ولم يحقق الله هذا الطموح لجلالته، وظلّ المطمح معلقا حتى أتمّه الله على يدي نجله الأمير خالد الفيصل، فحددها مكاناً وزماناً على ما أثبت المؤرّخون تواتره، فانطلقت من الطائف لتحقق نجاحات على مستوى العالم العربي، وتجعل ثقافة وتراث ومستقبل المملكة حاضرة على خريطة المشهد الثقافي العربي، وتحرك في مثقفيها الطموح إلى الريادة الثقافية عربياً، والحضور عالميا، مؤكدين للعالم عمق تاريخهم وهويتهم العربية الأصيلة، فكل أمم الدنيا تهتم بموروثاتها ومقدراتها التاريخية، وتفاخر بها، وتجعلها مقصداً للباحثين والسيّاح.
إن سوق عكاظ ليست مجرد سوق أو مهرجان ثقافي، بل هي فلسفة أصيلة تصنع حلقة وصل بين العصر العربي الأول وعصرنا، ولسنا نستمد من عصور الأوائل إلا تلك الصورة الزاهية للعربي القديم، وفضائله ومكارم أخلاقه، فذلك العمق التاريخي مضافا إلى حاضرنا أظهر عكاظ بحلة جديدة، فاستمرت السوق منذ مهرجانها الأول تنطلق سنوياً، بحضور كبار شعراء العربية ومثقفيها، تمنح بردة الشعر لشاعر عربي في كل دورة، ثم أتبعتها بجائزة للشعراء الشباب من المملكة العربية السعودية، وجل من فازوا بتلك الجائزة، فازوا بعدها بجوائز شعرية عربية أخرى، كانت لعكاظ سبق اكتشافهم ودفعهم إلى الأمام، ثم توسعت عكاظ في خدمة الثقافة والأدب والفنون فأطلقت جوائز دولية مختلفة، للخط العربي، والفنون التشكيلية، وريادة الأعمال، وحتى للأعمال الروائية، والفلكلور، واهتمت كذلك بالمسرح، فكانت كل دوراتها العشر الماضية تفتتح بمسرحية عن شاعر عربي، تظل تعرض على مسرح عكاظ لمدة أربعة أيام متتالية.
وفي هذا العام جاءت دورته الثالثة عشرة، وكانت بشهادة الكثيرين دورة مائزة، شهدت إقبالاً عظيماً من مختلف الشرائح الاجتماعية من داخل المملكة وخارجها، حضرت فيه الثقافة بجميع عناصرها، أدباً ونقداً وفكراً وفنوناً وفروسيةً وترفيهاً وموسيقى وثقافات شعبية عربية، وتقنيات معاصرة وغيرها الكثير، اجتمع ذلك كله في عكاظ على مدى شهر أغسطس 2019م، ولم يغب أساسه القديم (الشعر)، بل سبقت موعد السوق مسابقة شعرية عربية، انتهت بفوز ثلاثة شعراء بمراكز متوالية تقدمهم فيها الشاعر محمد إبراهيم يعقوب، أما الجوائز الأخرى في الدورات الماضية فلم يعلن عنها شيء.
إننا في الطائف، وفي المملكة العربية السعودية، نفخر ونباهي بهذه السوق، ونعد إحياءها اتصالا وثيقا بأعماق ثقافتنا العربية، ووجهاً مشرقاً لثقافتنا السعودية والعربية، نشكر قيادتنا الحكيمة على عنايتها بجماله من خلال عنايتها بالسوق وتطويرها المستمر، واثقون بأن كل عام سيحمل جديداً في عكاظ يضاف إلى الثقافة العربية، وأن عكاظ ستكون مثالاً يحتذى في عنايتها بالثقافة والفنون والأدب والفكر.
** **
د. أحمد الهلالي - (جامعة الطائف)