د. عبدالحق عزوزي
لم تشهد فرنسا في سياستها الخارجية وأمنها القومي الداخلي أزمة مثل التي شهدتها مؤخراً مع الولايات المتحدة الأمريكية بعد إعلان أستراليا فسخ عقد ضخم أبرمته معها في 2016 لشراء غواصات تقليدية، واستبدالها بأخرى أمريكية عاملة بالدفع النووي، مفضلة عقد شراكة إستراتيجية مع الولايات المتحدة وبريطانيا.
وتملك أستراليا أسطولاً من الغواصات التقليدية ولكن عمر هذه التكنولوجيا بلغ 20 عاماً، ومنذ أكثر من عشر سنوات تعمل كانبيرا على تحديث أسطولها في مواجهة التطور العسكري الصيني السريع. وكانت كانبيرا ستحصل بموجب اتفاقها مع فرنسا على غواصات عملية ومتطورة، ولكن تقليدية، ففضلت الاستدارة نحو التكنولوجيا الأمريكية والبريطانية.
وقد نشرت «يورو نيوز» تقريرًا أكدت فيه أن الغواصات العاملة بالدفع النووي تعد سلاحًا نوويًا، ولا يختلف هيكلها الخارجي عن هيكل أية غواصة أخرى، والاختلاف الرئيس بين الغواصات التقليدية والغواصات «النووية»، هو في طريقة تزوّدها بالطاقة؛ كما أن إحدى الميزات الهامة للغواصات التي تعمل بالطاقة النووية هي أنها لا تتطلب التزود بالوقود، فعندما تدخل إحدى هذه الغواصات الخدمة، يتم تزويدها بكميات من وقود اليورانيوم تكفيها للعمل مدّة تزيد عن الـ30 عامًا؛ ثم إن الغواصات النووية يمكن أن تبقى في أعماق المحيطات لعدة أشهر في كل عملية غوص، ما يمنحها قدرة عالية على الاختفاء، كما يمكنها القيام بعمليات انتشار أوسع وأبعد.
وتعود فكرة تشغيل السفن والغواصات بالدفع النووي إلى أربعينيات القرن الماضي، مع التباشير الأولى لـ»العصر النووي»، ومنذ ذلك الوقت، هناك فقط ست دول في العالم تمتلك غواصاتٍ تعمل بالطاقة النووية، وتلك الدول هي الصين، فرنسا، الهند، روسيا، بريطانيا والولايات المتحدة.
ولكن التخلي عن صفقة الغواصات التقليدية الفرنسية ليس خياراً تكنولوجياً فحسب، إنما هو أيضاً خيار إستراتيجي. ويمكن تلخيص تداعيات هاته الأزمة في سبع نقاط أساسية:
-يعتبر الاتفاق صفعة شخصية للرئيس ماكرون، الذي استضاف رئيس الوزراء الأسترالي في قصر الإليزيه في يونيو الماضي وتفاخر بصداقتهما في اجتماع مجموعة السبع في بريطانيا في الشهر نفسه. كما أن إلغاء الصفقة جاء قبل ستة أشهر فقط من الانتخابات الرئاسية مما أغضب الرئيس الفرنسي؛ ففرنسا تشعر بالإهانة ولن تنسى بسهولة ما تراه خيانة أمريكية.
-الاتفاق يوضح بجلاء الفجوة العميقة بين باريس وواشنطن منذ تولي بايدن منصبه في البيت الأبيض. كما أن فرنسا تكتشف كما يكتشف الحلفاء التقليديون لأمريكا أن هاته الأخيرة تضع مصالحها وحساباتها كأولوية لها سواء راعت مصالح حلفائها أم لم تراعها.
-التحالف الجديد سيكلف صناعة الدفاع الفرنسية حوالي 65,7 مليار دولار أمريكي؛ كما أنه يهدد مساعي تعزيز التعاون في مجال التجارة والتقنيات الرقمية بين أمريكا وأوروبا؛ وهناك شعور متزايد في أوروبا بانكسار العلاقة عبر الأطلسي، وبعض الأصوات الأوروبية تدعو إلى إعادة تقييم الشراكات.
- شراكة بريطانيا مع الولايات المتحدة تعد مصدر إزعاج لفرنسا، حيث برز الشك الفرنسي القديم في أن عصابة من الناطقين بالإنجليزية تسعى لتحقيق مصالحها الخاصة مع استبعاد فرنسا.
-الرئيس ماكرون يريد أن تقود فرنسا الاتحاد الأوروبي نحو مسار وسط خلال الصراع الأمريكي-الصيني، وأزمة الغواصات تدل على أن «الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي» مسألة صعبة جداً.
- بدأت فرنسا ومعها أوروبا تفهم أن أمريكا تقوم بتبخيس دورها في النظام العالمي، خاصة في المنطقة التي تمتد من الهند والصين عبر اليابان إلى جنوب شرق آسيا وشرقًا ما بعد نيوزيلندا إلى المحيط الهادئ.
-صفقة الغواصات النووية تعد جزءًا من استراتيجية تطويق منسقة تقودها أمريكا ستعتبرها بكين تهديدًا لخططها لزيادة وتعزيز وجودها في منطقة المحيط الهندي.. وستسبب في تسريع وتيرة سباق التسلح في آسيا حتى قبل دخول هاته الغواصات الخدمة وستلجأ الصين لا محالة إلى تصعيد سياساتها في التحديث العسكري، خصوصا فيما يتعلق بالتكنولوجيا القادرة على مجابهة هذه الغواصات والضغط على حلفائها للتموقع معها؛ كما أن التحالف الأمني الجديد يضع مزيدًا من الضغط على مزاعم الصين المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي والمسارح البحرية الأخرى؛ ثم إن اندماج تايوان في البر الرئيسي الصيني سيقوض الميزة الاستراتيجية للولايات المتحدة في المحيطين الهندي والهادئ، مما يجعل الجزيرة نقطة مركزية استراتيجية للحرب الباردة الجديدة.