عبدالمجيد بن شاوية
إن نجاح أية أمة وتفوقها في بناء صرحها الحضاري رهين بما تتمثله وتتصوره من قيم وأفكار ومشاعر اتجاه ميادين ومجالات حياتها العامة، وبما اختزنته من تجارب بناءة، وكيفيات عملها ونشاطها وحركيتها على جميع المستويات والدوائر التي تشتغل فيها، وبما أوجدته من آليات اشتغالها، لإثبات نجاحها وتحقيق وجودها الكياني والحضاري.
وهكذا فلا مندوحة عن إعادة مأسسة مفهوم «العمل» وإعادة النظر في دلالاته ومعانيه وربطه المنطقي والعقلاني بما تعيش عليه كل أمة من تصورات وتمثلات على جميع الأصعدة: في الاجتماع، في السياسة.
والاقتصاد، في الثقافة والتربية، في كل مراحل وصيرورتها التاريخية.
إن كل المنظومات الفكرية والثقافية والدينية لدى جميع حضارات الأمم، نجدها تتمثل «العمل» كقيمة إنسانية وجودية، وأنها تحيى بما تمنحه من دلالات عميقة في وجودها لمفهوم العمل، وبما تتصوره من قيم حضارية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بـ»قيمة العمل».
وإذا ما استفسرنا مفهوم العمل في كل المنظومات الحضارية، فإننا سنجده عبارة عن مجموع القيم المعمول بها في كل حقول الحياة عامة، وله دلالات ذات أبعاد مختلفة تسمو به إلى حد التقديس في بعضها.
ومن هنا يحق لنا أن نطرح الأسئلة التالية: ما علاقة «مفهوم العمل» بكياننا نحن العرب/ المسلمين؟ كيف نتصور «العمل» بمفهومه العام في منظومتنا الثقافية التراثية؟ ما علاقة العمل بالفراغ؟ ما حكم البطالة التي يعيشها الإنسان العربي - المسلم الكفء في كل التخصصات؟ من يتحمل مسؤولية تعطيل قوى العمل بكل شعبها في واقعنا الحضاري؟.
كل هذه الأسئلة وأخرى، لا يمكننا أن نجيب عنها بشكل مستفيض، لأن ذلك يقتضي بحوثًا ودراسات نظرية وميدانية لكل فعل اجتماعي ومدى بعده في الروح الحضارية عامة.
فبكل المقاييس والمعايير، فإن اتفاق الأمم حول قيمة العمل كقيمة وجودية ملازمة، لا يجادل فيها جاحد ولا أي إنسان مهما بلغت وثائر تقدم حضارته، ولا ينكر أي كان مدى أهميتها في حياة الأفراد والشعوب.
فحتى الشعوب البدائية كانت تعيش على أنماط من الأعمال هي كذلك بدائية وفق ما تحياه وما تعيش عليه من داخل علاقات أفرادها بينهم وبين الطبيعة التي يعيشون عليها، فالطبيعة لا يمكنها أن تعيش الفراغ ولا أن تقبل به، وهو ما ينفيه الإنسان في حركته من داخل ما يفعله ويعمله من أعمال بفضاءاتها، فالفراغ عدم في بعده الأنطولوجي، لأنه يناقض مبادئ الوجود في السنن والنواميس الطبيعية والكونية، وإن هذه الأخيرة كذلك تقتضي التفاعل فيما بينها لتدل على الموجود وكذا وجودها.
إذن، فما معنى أن نعيش على الجمود الذي يطبع كياننا في كل صور ومناحي حياتنا، معناه أننا فاقدو الحركية اللازمة، والحركة فعل ميكانيكي وكيميائي، فيه تفاعل لعناصر متعددة ومعينة، وإن وُجدت هذه الحركة لا تشكل في حد ذاتها طفرة ونقلة نوعية وقطيعة وتجاوزًا، أي أنه ليس هناك تطور وتحول وتغيير وتجاوز بشكل إبستيمولوجي، وعلى هذا الأساس فالجمود عدم بمعنى من المعاني، فكياننا الإنساني والاجتماعي يفتقد إلى الحركة اللازمة، أي أنه يفتقد إلى التفاعلات البيولوجية، بمفهوم علم الحياة، وبالتالي فلا مناص من إيجاد آليات حرارية تفاعلية، تخلق دينامكية جديدة في حيواتنا الخاصة والعامة، وفي كل مؤسساتنا، سواء منها الاجتماعية أو الاقتصادية، الثقافية أو السياسية، التربوية أو العلمية، انطلاقًا من إعادة الاعتبار لمفهوم العمل كقيمة إنسانية وجودية، نوجد بوجوده ونعدم بعدمه.
وإذا ما استفسرنا واقعنا بكل مؤسساته وبنياته في علاقته بقيمة العمل نجد أن هاته العلاقة كأنها معدمة بشكل من الأشكال، وتخالف سنن وقوانين الطبيعة والتاريخ والكون في مدلولاتها العلمية والفلسفية.
إن فلسفة الحياة اقتضت منذ البدء فعل الحركة والتفاعل، وعمل الكائنات الحية وفواعل أخرى طبيعية مثل البراكين والزلازل، والجفاف والتصحر، وغير طبيعية من مثل الصناعات العلمية والتكنولوجية وغيرها، وبالتالي يمكن طرح السؤالين الآتيين: لماذا يتم الاستهتار بقانون الحركة والفعل في كل مجالات حياتنا الخاصة والعامة؟ وما مدى قيمة «إمكانية التجاوز» بالمفهوم العلمي والابيستيمولوجي في حياة كياننا الإنساني والحضاري، في علاقتنا بحضارات الشعوب المتقدمة سواء في الفكر أو العلم، في الثقافة أو السياسة، في الاجتماع أو الاقتصاد؟ فهذان السؤالان يحيلاننا بشكل علمي إلى مفاهيم خاصة، من قبيل الطفرة، والتقدم، والتغيير، والتحول، في علاقاتها وارتباطها بما تستبطنه حضارتنا وواقعنا بكل معطياتهما ومؤسساتهما، ومدى ما نبدعه من إبداعات بداخل دوائرهما وحقولهما، إن كان هناك إبداع ما.
فحتى لا نفرغ الصور من دلالاتها، فحري بنا أن نعمل على تقصي حقيقة مفهوم العمل في موروثنا الثقافي، سواء في النص الديني عامة، منه النص القرآني أو السني، أو فيما اختزنه عقلنا الثقافي وما سجله مخيالنا العام اتجاه قيمة العمل، إلا أننا لا نعرج على هذه النصوص بكيفية مباشرة، ولكننا سنحاول استشفاف مضمونها اتجاه مفهوم وقيمة العمل، وذلك من خلال ما يتراءى لنا من وراء قراءتنا للمتن الديني عامة، وما تحوزه الخطابات المتداولة على ألسنة معتنقيه من تصورات ما في مخيالهم العام.
إنه في كثير من النصوص الدينية، نجد الحث على العمل كقيمة روحانية واجتماعية، يتصدر أقسام العبادات والمعاملات، ويشكل عصب الحياة الفردية والجماعية، وتختلف درجاته من بعد لآخر، ففي بعده الروحي يسمو بالفرد والجماعة إلى العالم المقدس بما فيه من روحانيات، مما يجعل الفرد والجماعة على السواء، في علاقتهما الأفقية، أي من الفرد إلى الفرد ومن الجماعة إلى الجماعة، ينظران إلى أبعاده من أجر وثواب وزكاة وجزاء في العالم الآخر الأخروي.
لذا فالنص الديني يهيب بالمؤمنين به إلى العمل في حياتهم الخاصة والعامة، لما فيه من أجر وثواب عند الخالق تعالى، وكذا من فوائد دنيوية قيمة، كل ذلك يجعل المؤمنين بالنص الديني الإسلامي في علاقات عمودية في اتجاه الله تعالى من خلال ما يعملون به، وذلك في وجهه الشرعي والإيجابي من أجل الإعمار والبناء في سيرورات الحياة الإنسانية.
أما فيما يتعلق بجانب ما يتمثله الإنسان العربي -المسلم من تمثلات، وما يجسده في مخياله اتجاه قيمة العمل، فيتم مأسستها، نظريًا، من داخل منطوق النص الديني، لذا يعمل على تقديسها، ويسمو بها إلى درجة العبادات، ومن ثمة مشروعية فلسفة العمل لدى كياننا تعتمد بالأساس على مشروعية روحية، ليتم فعل احترامه حتى في بعده الدنيوي، إلا أنه يجب طرح السؤالين الآتيين: لماذا يتم احترام قيمة العمل نظريًا، ولا يتم في جانبه العملي/ التطبيقي؟ وما منطق هذا الانفصام بين ما نستلهمه من بعد روحي/ روحاني ومن احترام لقيمة العمل، وبين ما يعتمل به في حياتنا الواقعية من أعمال وكيفيات، التي نشتغل عليها؟
فلنتأمل مليًا في قسم مهم من نظام المعتقدات والإيمانات لدى الإنسان العربي/ المسلم، فإننا سنجد، دون شك، إننا نمتلك نسقًا مهمًا لأخلاقيات العمل، تفترض الجد والنزاهة، والشفافية، وروح المسؤولية والالتزام، والثقة والإخلاص، والأمانة والنبل، وغير ذلك من القيم الأخلاقية المثالية، إلا أنه لماذا نفتقر إلى روح العمل الواقعية، وتبقى هذه الروح سجينة ومحنطة في غياهب المجرد، وثاوية فيه غير بادية؟.
فإن كان العمل هو قانون الفعل للحياة، وروح النواميس والقوانين الطبيعية والكونية، ويشكل روح الحياة والوجود الإنساني، فإنه يتنافى والفراغ، فهذا الأخير ليس له طعم، ولا لون، ولا شكل، أي أنه معدوم الوجود، ولا يستقيم له أي قانون، إذ ما حكم الفراغات التي تعيشها أغلب كائناتنا، سواء منها الطبيعية أو البشرية ويتم تعطيلها عن العمل والفعل الواجبين؟.
إذن، فالذات المعطلة، والمجتمع المعطل، والمؤسسات والإمكانيات البشرية والطبيعية والأدمغة المعطلة، وكل أشكال البطالة والتعطيل، والتي تعيش الفراغات داخل مجتمعاتنا، فإنها تعيش على وضعية العبث و»تتصادم لا منطقيًا مع وجودها»، وبالتالي، ليست لها أهداف ولا غايات محددة، ولا برامج ومخططات ناجعة، بل غياب الآليات والصيغ العملية والعقلانية والرشيدة، وفقدان روح التضحية والإيمان العميقين بقيمة العمل، والإرادة اللامحدودة في البذل والسعي الجديين، وتفشي ظاهرة التواكل في القيام بالأدوار، وانعدام تكاثف الجهود المفترض بذلها في كل الأصعدة، والاستهتار بالمسؤوليات الملقاة على عاتق القائمين عليها في كل الميادين والمؤسسات، بدءًا بالأسرة إلى الدولة، لكفيل بأن نراوح أمكنتنا ونلوك أمراض أزمنتنا، مما ينتج الفقر العام وكل مظاهر الأمراض الاجتماعية، وتجليات السلوكيات وأنماط الحياة السلبية، وانعدام الروح البناءة..
فـ«العمل» كقيمة هو أم الحضارات الإنسانية، والفقر في العمل في كل حقول الحياة الإنسانية، من خلال ممارسات وأنماط وسلوكيات الفاعلين الاجتماعيين هو جريمة حضارية، أما البطالة والتعطيل فهما حكمان بالإعدام موقوفا التنفيذ، في حق الكفاءات والفعاليات والكائنات البشرية والطبيعية والعلمية، والإمكانيات والمؤسسات على اختلاف أنواعها.
وانطلاقًا مما تقدم، يمكننا القول، إننا نعيش عقمًا حضاريًا، مقارنة بما لدى الأمم المتقدمة، وما تزخر به حضاراتها، بل إننا إذا ما أجرينا فحصًا مدققًا وأنجزنا بيانات ورسومات هندسية وإحصاءات حسابية، لما ينتجه الإنسان المتقدم، وما يحققه من طفرات علمية وتكنولوجية، لوجدنا أنفسنا أمام صورة كاريكاتورية مخجلة تصدح بها دونيتنا في سلم الهرم الحضاري، ولا يمكن أي مكابر أو معاند أن ينكر ما نشتغل عليه في علوم تكنولوجيا الاتصال وغيرها. إن النظرة الموضوعية للسبق الحضاري للأمم المتقدمة، أنيًا، تفترض ألا نحجب وضعنا المتخلف، على جميع المستويات، بادعاءات لا علمية، ولا تمت إلى التحليل العلمي والنقدي الملموسين بصلة.
فيجب أن يدرك أي كان منا، مهما كان موقعه الاجتماعي ومركزه السياسي، على أن هناك جهات بيننا تعيش في مستنقع التخلف، تعمل على اغتيال العقل والإرادة والطموح والتقدم والعلم والمعرفة والثقافة والحرية، باسم التسلط والاستبداد، والاستغلال والتهميش، والحرمان والكبت البنيويين في كل مجالات اليومي والحياة عامة، والأيديولوجية الاقصائية، والعنف المادي والرمزي، وغير ذلك من المناهج والأساليب السالبة للكرامة والحق الإنسانيين.
فبأي معنى توجد لدينا البطالة والتعطيل، اللذان يطالان حاملي الشهادات العليا، دكاترة ومهندسين وأطباء، ومجازين وتقنيين في كل التخصصات، غير معنى الحياة اللاعلمية واللاحضارية، ونحن لم ننجز الطفرات المرغوب فيها، ليتم تعطيل سواعد الأمة الذهنية والثقافية والعلمية، ولسان حالها، وخير مترجم لطموحاتها ورغباتها وآمالها اللامتناهية في التقدم والانعتاق من دائرة التخلف، إضافة إلى تعطيل القوى الطبيعية من إمكانات وخيرات، والفاعلين الاجتماعيين.
والمتأمل في واقعنا بكل مكوناته وعناصره المادية والمعنوية، سيجد أنه ما زال بكرًا، وفيه من قوى الاستعداد والتأهب ما يكفي للنهوض ونفض براثن التخلف، وبعبارة فلسفية، إن كل ما لدينا يوجد في وضعية الوجود بالقوة لا الوجود بالفعل، إن هذا الأخير لا يترجم إلا إذا أصبحت إرادة العمل، كقيمة نفسية واجتماعية، في وضعية المفكر فيه وقيد التجسيد الحقيقي والفعلي، وأصبح كذلك مفهوم العمل بكل قيمه في صيغة برامج ومخططات عمل بروح حضارية عالية جدًا، لا تعرف الكلل ولا الانهزام أمام الحواجز والعوائق سواء الذاتية أو الموضوعية.
إن مسؤولية هذا الوضع القائم، لا يمكن أن يتحملها طرف دون الآخر، فهي مسؤولية بنيوية، تقع على عاتق كل الفئات والفعاليات المجتمعية، وكل بنياته ومؤسساته، فإن كان الفعل عملاً، ورد الفعل عملاً كذلك، فإلى أي حد يمكن قياس الأفعال من جهة وردود الأفعال من جهة أخرى، في إطار علاقة جدلية بين مكونات وفاعلي الحقل الاجتماعي الإنساني، أو بينها وبين الطبيعة، وبين السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة.. وهكذا يبدو أننا نعيش فقرًا بنيويًا لا حدود له في طبيعة وكيفيات الأعمال، التي تعوزها الدقة والتفاني، والإخلاص والحب، والإتقان والإبداع في العمل بكل صوره وأنماطه، ولذلك يكون التساؤل مشروعًا عن تجليات مشاعر الملل والرتابة والروتين والكسل وغير ذلك من الظواهر المخجلة والمخزية في الوقت نفسه في علاقة الأفراد والفاعلين بأعمالهم داخل مجتمعاتنا العربية/ الإسلامية.
وانطلاقًا مما تقدم، يحق للإنسان العربي/ المسلم أن يتساءل مرة أخرى عن: هل للسياسة والأيديولوجية والتربية دور في الدفع بقيمة العمل نحو الأمام، دون تراجع، بكيفيات مبدعة وخلاقة؟ ما علاقة النظام الاجتماعي بمفهوم وقيمة العمل؟ وما هي المرجعيات التي تؤطر تحمس الشعوب والأمم المتقدمة للعمل في حياتها العامة؟ وإلى متى تبقى هذه الصور النمطية التقليدية لقيمة العمل لصيقة بذهنية الإنسان العربي/ المسلم؟ وهل يمتلك رؤية حضارية شاملة لبرامج عمل، اتجاه الأشياء والمجتمع والتاريخ والعلم والمعرفة والثقافة والسياسة والاقتصاد والتربية والحضارة وغير ذلك من كل العوالم الذاتية والموضوعية؟.
** **
- كاتب مغربي