أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
مادة (ظهر) من أخصب مواد اللغة، لأنها جياشة بالمعاني، وأوسع معجم دونها (لسان العرب) لابن منظور، ويجمع معاني هذه المادة أصل واحد وهو البروز.
قال الإمام ابن فارس: (الظاء والهاء والراء: أصل واحد يدل على قوة وبروز) - معجم مقاييس اللغة ج3 ص 471.
قال أبو عبد الرحمن: الطريق لتصحيح رأي ابن فارس - رحمه الله - الاستقراء؛ فإن تخلف معنى البروز في أحد معاني ظهر الصحيح النقل عن العرب فلنا أن نقول: إن هذا الأصل غير صحيح؛ وإن تحقق لنا معنى البروز في كل معنى نقل عن العرب، وجب ألا نقبل أي اشتقاق من هذه المادة إلا بشرط أن يوجد فيه معنى البروز.. وابن فارس - رحمه الله - قد استقرأ أصوله قبل أن يدونها فجاء كتابه معجم المقاييس تحفة نادرة لا مثيل لها في معجماتنا. ولقد استقرأت معاني المادي فيما لدي من أمهات المعجمات فرأيت أن هذا الأصل صحيح إلا أنني لا أقول بالقوة والبروز معاً، وإنما أقول: الأصل واحد يدل على البروز فقط؛ لأن القوة والبروز لفظان غير مترادفين إلا من ناحية التلازم بحكم أن البروز من لوازم القوة، وليست القوة من لوازم البروز؛ فالقوة غير مطردة هنا. واللزوم لا يعد من باب الترادف اللغوي.. ومعنى الظاهر في المصطلحات العلمية: اشتق من لفظ ظهر مصطلحات علمية؛ إلا أن هذه المصطلحات لا تلتبس بظاهرية ابن حزم فآثرت الإضراب عنها، باستثناء مصطلح الأصوليين؛ لأنه ربما اشتبه مصطلحهم بمصطلح أهل الظاهر.
معنى الظاهر في مصطلح الأصوليين
يرد الظاهر عند الأصوليين من الحنفية في معرض الكلام عن تقسيم اللفظ من ناحية الوضوح والإبهام؛ فهو عندهم): لفظ يدل على معناه بذاته من غير توقف على قرينة خارجية مع احتمال تخصيصه أو تأويله أو نسخه: كقوله تعالى:{وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [سورة البقرة/ 275]، فهذا اللفظ ظاهر الدلالة في حل البيع وحرمة الربا من غير دلالة من خارج، وكل من البيع والربا عام الدلالة يحتمل نسخ أو تخصيص بعض أفراده (تفسير النصوص للدكتور محمد أديب صالح ج1ص 142 - 197 وص 201).. ويرد عند الشافعي مرادفاً للنص بمعنى الخطاب من الله سبحانه أو من رسوله صلى الله عليه وسلم بغض النظر عن مرتبة دلالته من ناحية الوضوح والإبهام. قال إمام الحرمين في البرهان: (أما الشافعي فإنه يسمي الظواهر نصوصاً في مجاري كلامه وهو صحيح في وضع اللغة، فإن النص معناه الظهور) ا هـ (تفسير النصوص ج1ص 198 -226)؛ فلما جاء المتكلمون من أصحاب الشافعي زادوا في تعريف الشافعي قيداً فقالوا: (هو اللفظ الذي يدل على معناه دلالة لا ينقطع فيها الاحتمال)؛ فإن انقطع الاحتمال، فهو نص كصيغة الأمر ظاهرة في الوجوب ولكنه لا ينقطع فيها احتمال الندب والإباحة، ثم جاء متأخرو المتكلمين من الشافعية والحنابلة؛ فعرفوا الظاهر بأنه الاحتمال الراجح، وجعلوا بمقابله (المؤول) وهو الاحتمال المرجوح.
معنى الأخذ بالظاهر عند ابن حزم
لم أجد في كتب أبي محمد المطبوعة تعريفاً للظاهر يرسم منهجه، فيذكر شروطه وحدوده وقيوده، ويتبسط في شرح فكرته، ويمثل لها؛ والسبب فيما يبدو لي أن كتب أبي محمد الفقهية والأصولية المطبوعة من مؤلفاته الأخيرة التي كتبها لتطبيق الظاهرية لا لشرحها؛ فأكبر موسوعة مطبوعة لأبي محمد كتابه الجليل (المحلى) ألف في آخر حياته بعد أن استقام له أصل الظاهر، ونافح عنه، فتفرغ لتطبيقه وقد مات ولم يتمه، فأتمه ابنه الفضل أبو رافع من كتاب والده (الإيصال).. ويؤيد هذا السبب أن أبا محمد عقد فصلاً خاصاً عن حمل الأوامر والأخبار على ظواهرها اكتفى فيه بالتدليل ونقض أدلة المخالف دون أن يمهد ببيان معنى الظاهر برسمه وشروطه؛ لأن الأصل الظاهر أصبح من الأمور المفهومة (عنده، وعند خصمه) فلم يبق إلا الجدل في أخذه أو رفضه؛ وربما (وهو الأرجح) أن أبا محمد قد تبسط في شرح الظاهر في مجادلاته الشفهية، وربما كان ذلك في كتبه المفقودة، فله كتاب: (كشف الالتباس بين أصحاب الظاهر وأصحاب القياس) وهو من كتبه المفقودة؛ فيحتمل أن يكون فيه بيان (معنى الظاهر ).. وربما بينه في رسائل لم تصل إلينا أسماؤها، ورجحت الأمر الثاني لأنني لم أجد فيما لدي من كتب أبي محمد إحالة إلى شرح هذه الفكرة، ومن عادة أبي محمد الإحالة إلى المباحث التي سبق له استيفاؤها؛ وأستثني السطر والسطرين يردان في كتب أبي محمد الموجودة لدي لم يقصد فيهما البحث عن الظاهر، ولكن الباحث إذا تقصى قراءة (الإحكام في أصول الأحكام) وحده استطاع أن يرسم المذهب من منحى أبي محمد في تفريعه وجدله، وبناء على هذا التقصي أقول: الظاهر قسمان: لفظي وعقلي: فالظاهر اللفظي دلالة اللفظ في لغة الشرع، فإن لم يوجد للشرع اصطلاح فالظاهر هو المجاز الغالب في الاستعمال، فإن لم يوجد مجاز غالب الاستعمال: فالظاهر هو دلالة اللفظ الوضعية: (الحقيقية اللغوية) ولا يحمل على المجاز غير الغالب الاستعمال إلا بدليل؛ والظاهر العقلي كل ما جاز للعقل تصوره من دلالة المسألة وكل ما لا يتصور العقل غيره، وسر هذا التقسيم: أن محل الظاهر إما نص من الله، وإما من رسوله صلى الله عليه وسلم، وإما إجماع، وإما دليل منهما، كأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم والاستصحاب، وما نص على معناه؛ فمدلول قول الرسول صلى الله عليه وسلم (ظاهر لفظي) ومدلول فعله صلى الله عليه وسلم (ظاهر عقلي).. وهذان الظاهران قد تكون دلالتهما بعيدة، وقد تكون قريبة. وما يتعلقان بحقيقة المدلول أو بكيفيته أو بكميته، أو بزمانه، أو بمكانه.. وإلى لقاءٍ قريب إنْ شاءَ الله تعالى، والله المستعان.
** **
كتبه لكم: (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين-