حسن اليمني
سِمَة أو وجه العالم تبدو متجهة للتغيُّر والتحوُّل، والكثير يلحظ مؤشرات هذا التغير وهو في نهاية الأمر من طبيعة التاريخ وحال تقلّب العصور في تقدمها وتأخرها، وما يهم هو وضع منطقتنا العربية وإلى أين تتجه؟
بداية لابد من أن نقرأ المؤشرات الموضوعية على هذا التغيّر أو التحول على المساحة الدولية العالمية ولو بشيء من الإيجاز لننتقل إلى أثره الطبيعي على منطقتنا العربية ثم نبحث في ركائز ونقاط الاحتكاك والتصادم المحتمل الطبيعي في المنطقة نتيجة هذا التحول والتغيّر في قواعد اللعبة عالمياً.
حين انتهت الحرب العالمية الثانية توارت الإمبراطورية البريطانية وإن كان التواري بدأ من قبل ذلك التاريخ إلا أنه أصبح واضحًا وجليًا، في حين تقدمت الإمبراطورية الأمريكية كأقوى قوة في العالم تزاحمها وتنافسها إمبراطورية الاتحاد السوفييتي، وانقسم العالم إلى معسكرين شرقي وغربي انتهى العام 1991 م بتفرد مطلق للمعسكر الغربي الذي اتجه إلى بعض دول العالم الإسلامي وسعى لإخضاعها عام 2001م بشن الحروب العسكرية على دول وترويض سياسة وثقافة ومناهج دول أخرى إلى أن وصل مرحلة متقدمة في ذلك تحقيقًا لرؤية كونداليزا رايس كنهاية للتاريخ -حسب زعمها، لكنه -أي التاريخ- عاد مع الصين كعملاق اقتصادي ينتشر في خريطة العالم بما في ذلك دول الغرب نفسها نتيجة علمنة الاقتصاد بمنظمة التجارة العالمية لتبدأ مرحلة التغيّر أو التبدل في المراكز والتحول في الرؤى والإستراتيجيات السياسية والعسكرية.
ونستطيع أن نرى ذلك من خلال المؤشرات التالية:
* ظهور الصين الاقتصادية كمارد صاعد وتنافسها مع الاقتصاد الأمريكي بعد تجاوزها ألمانيا واليابان أصحاب الرتب الأولى في العالم اقتصادياً.
* بلوغ أسلحة التدمير مداها وبما يكفي لتدمير العالم والتحول إلى التقنية الدقيقة المقدور عليها بالعقول الذكية.
* الانتقال للقوة الاقتصادية بدل العسكرية.
* ظهور أهمية التهدئة مع العالم الإسلامي بعد ما تم ترويضه لجذبه في مواجهة الصين.
* التقارب في العلاقات بين روسيا والصين واتجاه الدولتين للتمدد في المساحات التي أنهكت أمريكا واختراق المناطق الأخرى.
ونقاط أخرى كثيرة في مجملها تظهر خطوط التحول الإستراتيجي في اتجاه مختلف لمواجهة ما استجد، بمعنى أن التركيز على غايات وأهداف تصبح مستحقة للمراجعة حين تواجه غايات وأهداف إستراتيجية منافسة، وإلا ستجد نفسها في وقت ما متأخرة كثيرًا وداخلة في إطار الغايات والأهداف الإستراتيجية للجهة الأخرى، لهذا يرى المتابعون ويلاحظون إعادة تموضع للقوة الغربية وبالأساس الأمريكية وخاصة في منطقتنا والعالم الإسلامي.
إن أثر ذلك كله على سِمَة ووجه منطقتنا العربية بالغ الأثر، فهي -أي المنطقة- كانت النقطة الأسخن على مستوى العالم لعقود طويلة وكانت فيها اليد العليا لأمريكا، لكن حال التعنت الإسرائيلي من أن تحقق فيها الولايات المتحدة الأمريكية تغيرًا واضحًا ينهي الصراع بسلام حقيقي، حتى برغم معاهدات السلام والتطبيع مع الكيان الإسرائيلي إلا أن الحقيقة تكمن في الوجدان العربي والإسلامي الذي ما زال صامدًا في تعريفه للأشياء كما توارثها برغم محاولات دفن التاريخ، وبالتالي فإن الصراع الجدلي سيستمر يراوح مكانه وستبقى تبعاته على أمريكا معيقًا لها ولا يساعدها على خوض المنافسة أو المواجهة مع الإستراتيجيات المنافسة والمزاحم لها في سيادة العالم بالسلاح الاقتصادي الجديد بديل السلاح العسكري الذي وصل ذروته لدى الجميع، وأقصد القوى المتصارعة على سيادة العالم.
والآن وحين نضع المنطقة العربية في مركز البحث سنجد أن المنطقة تسير في اتجاهين متضادين وبالقوة نفسها، أحدهما تاريخي والآخر واقعي، وكلاهما يملك الحجج بالقوة ذاتها أيضًا، ويبقى معيار التوازن أو إبرة الميزان البينية في الترجيح هي الكيان الإسرائيلي في فلسطين، لكن بدلاً من الدخول في متاهة التفاصيل في المسارين يستحسن أن نبحث عن المؤشرات الملموسة للتحول والتغيّر في المنطقة وركائزها الموضوعية وهو الأهم، ويمكن أن نضع بعض النقاط لهذه المؤشرات كما يلي:
* طبيعة ذهنية اليهود من بني إسرائيل والتي تعودت التمرد على ما حولها وحتى فيما بينها وعلى بعضها بطبيعة علاقتها، كما تؤمن مع الله بالأفضلية والاختيارية في تعالٍ وتكبّر والتي تظهر بشكل واضح في اليمين المتطرف الذي آلت إليه الأمور في الحكم منذ مجيء بنيامين نتنياهو، والسباق في التشدد والتصهين أصبح سقفًا، من الصعب على أي سياسي معتدل أو بالأصح حكيم في اختراقه والوصول إلى السلطة في المنظور القريب.
* علاقة الغرب بإسرائيل والحاجة لوجودها وانقضاء هذه الحاجة - بقاعدة أن لكل شيء مدى - مع توفر البديل الأكثر قدرة وأكفأ والأرخص كلفة، وليس هناك أنسب من إيران، والتي يمكن أن تؤدي الدور ذاته وتحقق للغرب غاية تعطيل العرب في التقدم والتوحد وبكلفة مالية وسياسية مربحة.
* رجوح تكلفة حماية إسرائيل على الفوائد المرجوة من بقائها كعالة مستمرة تسّتنزف الكثير من الدعاية المدنية للغرب، وخاصة في حال نشوب حرب إقليمية، ومن جهة أخرى فمع العلاقات والتطبيع لم تعد الحاجة العربية للتسلح إلا لمواجهة إيران، وهو ما يجب استثماره بالتفعيل الإيراني وتسخين جبهته من باب صناعة المشاكل للتكسب.
وبالتالي فإن خروج إسرائيل من المشهد سيعيد الصراع المذهبي ويحول دون توحد قوى إقليمية إسلامية تُسارع في تطوير صناعاتها العسكرية، إذن هذا هو ما قد يكون البديل الأنسب لأمريكا، ونحن نلحظ الاختلاف بين إسرائيل وأمريكا فيما يخص المحادثات النووية والتي في نجاحها إضعاف قوي للكيان الصهيوني ومنح إيران قوة أكبر للعسكرة وخضخضة المنطقة ولتحل بديلاً بلا تكلفة يتحملها الغرب وإنما تزيد من عجلة مصانع السلاح في الإنتاج بما يعود على الاقتصاد الغربي بالفائدة الأكبر.
* صعود القوة النوعي في بعض دول الإقليم وتجاوز بعضها القوة العسكرية لإسرائيل وخاصة التصنيع والتقنية الحرارية والكهرومغناطيسية مع ضيق العمق الإستراتيجي للكيان وانكشافه بالكامل مما يشير إلى أن مؤازرة إسرائيل من قبل أمريكا والغرب بشكل مباشر يمكن أن يحول الصراع إلى حرب عالمية أو ذات كلفة أكبر حتى وإن كانت غير مباشرة وبالوكالة إلا أنها في كلا الحالتين تفيد الصين وروسيا أكثر مما تفيد أمريكا والغرب، إذ إن روسيا حتى وهي تعلن أن أمن إسرائيل جزء من أمنها إلا أنه يمكن تفهم ذلك لغاية توطيد وجودها في سوريا دون تنغيص من الكيان الإسرائيلي، وحتى إن لم يكن كذلك فإن وجودها في سوريا مع تفكك الرابط بينها وإيران الذي يحتمل أن يظهر في تحالف مع القاعدة والمقاومة الفلسطينية وحزب الله مضافًا إليهم الدعم الإقليمي سيجبر روسيا على كشف ظهرها في القرم ما يجعل هذا الإعلان أي أمن إسرائيل من أمنها مجرد مكياج سياسي لا يتجاوز واقع الحال اليوم في سوريا وليس أكثر، أما الصين فإنها أمام فرصة للوصول إلى البحر المتوسط واستحواذ الخليج العربي، وهو أمر لا أحد يشك في أن تفرّط فيه الصين إطلاقاً.
هذا غيض من فيض يمكن ملاحظته وقراءة احتمالاته دون حاجة للدخول في تفاصيل أعمق وإن كانت ستظهر الصورة بشكل أوضح، بيد أن ما يمكن قوله أخيراً هو أن من طبيعة الصهاينة من بني إسرائيل التمرد على الأشياء ومنطقها، وشاهد ذلك أنها وهي قد وصلت ذروة قوتها ومُدّت لها أيادي التطبيع إلا أنها ابتعدت أكثر عن الجنوح للسلم ولو في مقابل قليل من العدل على الأقل العاطفي الشكلي كتواضع أو مرونة سياسية لكن لم يتم، وهذا في اعتقادي صورة من صور الانتحار.
بقي جانب آخر ومهم للغاية وهو صراع المنطقة العربية مع البيئة والطبيعة والذي في حال استمر إهماله وبقاء حالة التدمير والحروب التي تستعر اليوم كبراميل بارود في بعض دوله موازاة مع شح الأمطار وسوء الخدمات فالأمر جد خطير.