د. تنيضب الفايدي
كتب عن الحبِّ ووصفِهِ وأنواعِهِ كثيرٌ من العلماء والأدباء والشعراء، كما كتبوا عما يدلّ عليه ولا سيما شعر الغزل، وتعددت إصداراتهم حول الحبّ والغزل، لذا فإن الشواهد المختارة تدلّ دلالة عميقة على دور اللغة العربية في وصف المشاعر الإنسانية الجيّاشة عن الحبّ ونقل أخبار المحبين، علماً بأنّ أئمة من الفقهاء بالذّات نقلوا وصفاً دقيقاً للغزل والحبّ، فعلى سبيل المثال أجمل وأكمل ما كتب عن الحبّ صاحب الكتاب الشامل عن الفقه (المحلّي) أبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب الأندلسي (المتوفى سنة 456هـ)، حيث يعد كتابه (طوق الحمامة في الألفة والألاف) من أعمق ما وصف الحبّ شعراً ونثراً، علماً بأنه عالمٌ متبحر في العلوم، ولا سيّما في الفقه، وللإمام العالم جمال الدين أبي الفرج ابن الجوزي (510 - 597هـ) كتابٌ في وصف الهوى وما قيل فيه وبعض القصص الطريفة عن الحبّ والمحبين، وقد سمى ذلك الكتاب (ذمُّ الهوى) وفي العنوان يذمّ الهوى ولكنّ وصفه دقيق جداً ومغرٍ للقراءة والحفظ. وله كتابٌ آخر في الحبّ (المدهش)، ولعلّ من جمال اللغة العربية القدرة الفائقة في التعبير عن مشاعر الحبّ، سواءً كان ذلك وصفاً بالكلمات أو بالشعر، ولأن اللغة العربية أصبحت من اللغات العالمية المعتمدة وحدّد لها يومٌ للاحتفال بـ(يوم اللغة العربية العالمية)، وهو يوم 18 ديسمبر من كل عام، فإن هذا اليوم وإن لم يكن له مردود مباشر على اللغة العربية إلا أن ذلك مدعاة للاهتمام بها، ولا سيما في ظل هيمنة التقنية الحديثة ووسائل الاتصال واتساع شبكات التواصل الاجتماعي.
ويستعمل التغزل والحبّ والتشبيب والنسيب في الكتب القديمة بمعنى واحد، وإن كانت غير مترادفة في الأصل، فالغزل هو تحديث الفتيان الجواري، واللهو معهن ومراودتهن والتخلق بما يوافقهن.
أما الحبّ فقد أجاب بعض الشعراء عنه، قال الحُصرِي القَيْرواني:
إني أُحِبُّكِ حُبّاً ليس يَبْلُغُه
فَهْمٌ ولا يَنْتَهي وصفي إلى صفته
أَقْصَى نهايةِ علمي فيه معرفتي
بالعجزِ مِنِّي عن إداركِ معرفته
ويقول البهاء زهير:
يَقول أناسٌ لو وَصفتَ لنا الهوى
وواللهِ ما أدرى الهوى كيف يُوصَفُ
ويقول أحمد شوقي:
يَقول أُناسٌ لو وَصفتَ لنا الهوى
لَعَلَّ الذي لا يَعْرِفُ الحبَّ يَعْرِفُ
فَقُلْتُ لقد ذُقتُ الهوى ثم ذُقْتُه
فوالله ما أدري الهوى كيف يُوصَفُ
ويقول أبو العتاهية:
يقول أناسٌ لو نَعَتَّ لنا الهَوَى
وواللهِ ما أدري لهم كيف أَنْعَتُ
سَقَامٌ على جسمي كثيرٌ مُوَسَّعٌ
ونومٌ على عَيْني قليلٌ مُفَوَّتُ
إذا اشْتدَّ ما بي كان أفضَلَ حيلتي
له وضعُ كفي فوق خدي وأسكت
ويذكر الحُصْري القيرواني في الجزء الثالث من زهر الآداب قول امرأة لأخرى: ليس أمرُ الهوى إلى الرأي فيملكه، ولا إلى العقل فيدبّرَه، وهو أغلبُ قُدرةً، وأمنَعُ جانباً من أن تَنْفُذَ فيه حيلةُ الحازم، أو ما سمعتِ قول الشاعر:
ليس أمرُ الهَوَى يُدَبِّرُ
بالرأي ولا بالقياس والتفكير
وذكر الحُصْرِيُّ أيضاً أنَّ أعرابياً وصف الهوى فقال عنه: هو أعظمُ مسْلكاً في القلب من الروح في الجسد، وأمْلَكُ بالنفس من النَّفس، وامتنع عن وصفه اللسان وعَيِيَ عنه البيان، وأنشد:
يقولون لو دَبَّرتَ بالعَقْلِ حُبَّها
ولا خيرَ في حُبٍّ يُدَبَّرُ بالعَقْلِ
وقالت أعرابية تصف الحب:
خَفِيَ عن أن يُرَى، وجلَّ عن أن يخْفَى، فهو كامِنٌ ككمونِ النار في الحجر، إنْ قَدَحْتَه أَوْرَى، وإن تركتَه توارى، فهو إن لم يكن شُعبةً من الجنون، فهو عُصارة السحر.
ويقول الأحوص:
إذا أنتَ لم تَعْشَق ولم تَدْرِ ما الهوى
فَكُنْ حجَراً من يابس الصخرِ جَلْمَدا