د. تنيضب الفايدي
فتق حب الديار والوطن وأجج عاطفة الحب وأشعل الهوى لمن سكن هذه الديار، وصدرت نفثات رقيقة وصور دقيقة عن حب الديار والمنازل، كما ظهر شعر الاعتزاز والافتخار بالأمجاد التاريخية من خلال الشعر بداية من شعراء المعلقات السبع أو العشر، حيث خلد كل شاعر وطنه، ووطن محبوبته، وبعض الأماكن الأخرى في شعره وأظهر كل شاعر تفجعه على الديار والتوجع للدمن والآثار، فقد قال امرؤ القيس بن عمرو الكنْدي:
قِفَا نَبْكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ
بسقطِ اللقوى بين الدخولِ فحوملِ
فتوضح فالمقراةِ لم يعفُ رسمُها
لما نسجتْها من جنوبٍ وشمألِ
(حيث ذكر سقط اللوى، والدخول، وحومل، وتوضح، والمقراة) وهي مواقع لها أهمية لارتباطها بمحبوبته.
وها هو طرفة بن العبد البكري يذكر مكان محبوبته ويسمى (برقة ثهمد):
لَخولة أطلالٌ ببرْقة ثهْمد
تلوحُ كباقي الوَشْمِ في ظاهر اليد
وقوفاً بها صَحْبِي عليّ مطيَّهُمْ
يقولون لا تهلكْ أسى وتجلَّدِ
وأحب زهير بن أبي سلمى مواطن محبوبته، ومواطنها (حومانة الدرّاج، والمتثلم، والرقمتان) حيث قال:
أَمِنْ أمّ أوفى دمْنَةٌ لمْ تكلَّم
بحومانَةِ الدَّرَّاجِ فالمتثلِّم
ودارٌ لها بالرَّقْمتين كأنّها
مراجِيعُ وشْمٍ في نواشرِ مِعصم
وكذلك بقية شعراء المعلقات اشتاقوا قديماً إلى أوطانهم واشتد حنينهم إلى منازل الصبا، ومواطن الأهل قال عنترةُ بن شداد العبسي في معلقته التي بدأها بقوله:
هل غادر الشعراءُ من متردم
أم هل عرفت الدار بعد توهم
إلى أن وصل إلى الجواء حيث دار عبلة:
يا دار عبلة بالجواء تكلمي
وعمي صباحاً دار عبلة واسلمي
الجوى، وعيون الجوى ما زالت بنفس الاسم بمنطقة القصيم.
والنابغة الذبياني يخاطب دار محبوبته حيث تسكن العلياء والسَّند
يا دار ميَّة بالعلياء فالسند
أقوت طال عليها سالف الأمد
ومن مقدمة معلقة الحارث بن حلزة من ربيعة بن نزار حيث يقول:
آذنتنا ببينها أسماء
ربَّ ثاوٍ يملّ من الثواءُ
بعد عهد عهدٍ لنا ببرقة شمّا
ء فأدنى ديارها الخلصاءُ
فالمخبَّاةُ فالصفّاحُ فأعنا
ق فتاقٍ فعاذبٌ فالوفاءُ
فرياضُ القطا فأودية الشر
يب فالشعبتانِ فالأبلاءُ
إلى أن يقول:
فتنوَّرْتُ نارها من بعيدٍ
بخزازى هيْهات منك الصِّلاءُ
فقد عدد مواطن كثيرة سكنها وأثبتها للتاريخ لحبه لها
وقال لبيد بن ربيعة:
عفتِ الديارُ محلها فمقامها
بمنىً تأبد غولها فرجامُها
فمدافعُ الريان عُرِّي رسْمُها
خلقاً كما ضمنَ الوحيّ سلامُها
منى ومدافع الريان... وغيرها... أماكن محبوبة لدى لبيد بن ربيعة (رضي الله عنه).
وقد ذكر زهير بن أبي سلمى إضافةً إلى ما سبق في معلقته عشرات الأماكن..
(العلياء)، (جرثم) (القنان) و(حزن القنان) حيث قال:
تبصّر خليلي هل ترى من ضعائنٍ
تحمَّلن بالعلياء من فوق جرثم
جعلن القنان عن يمينٍ وحزنه
وكم بالقنان من محلٍ ومحرمِ
وفيما يلي مقدمة معلقة عبيد بن الأبرص المضري وكل ما قيل في مقدمتها مواقع وأماكن ووهاد وجبال وأودية له معها ذكرى لذلك عددها:
أقفر من أهله ملحوبُ
فالقطَّبِيَّاتُ فالذّنُوبُ
فراكِسٌ فثُعَيْلِبَاتٌ
فذَاتُ فرْقِيْنِ فالقَلِيبُ
فعَرْدَةٌ فَقَفَا حِبِرٍّ
لَيْسَ بها منُهُمْ عَرِيبُ
وقد يحب الإنسان وطنه مع عدم توفر ما يسعى إليه. قال الشاعر:
وتستعذب الأرض التي لا هوىً بها
ولا ماؤها عذبٌ ولكنها وطنْ
بل إن حب المكان يحول ترابه إلى مسك وكافور، وأشجاره ذات الأعواد الجافة إلى رند وهو نبت طيب الرائحة:
ألا إن وادي الجزع أضحى ترابه
من المسك كافوراً وأعواده رندا
وما ذاك إلا أن هنداً عشية
تمشت وجرت في جوانبه بردا
وقد خلد هذا الحب وادي الجزع، وخلد الشعراء القدماء حب الديار وتحديدها بالجبال والأودية، والسهوب، وتشرّب ذلك الحب أبناؤهم، وأصبحت الأجيال بعد الأجيال تردد ذلك الشعر، وتعلم موطن الشاعر بجباله وأوديته التي عاش فيها وخلدها شعره مع تحديدها وكمثال لذلك هذا الشاعر «عائذ بن محصن» ولقبه المثقب العبدي رصد خمسة مواطن في بيتين من الشعر:
لمن ظعُنٌ تطالعُ من ضبيب
فما خرجت من الوادي لِحين
مررْن على شرافَ فذات رجْل
ونكَّبْن الذّرائحَ باليمين
حيث ذكر الشاعر من الأماكن «ضبيب» و»الوادي» و»شراف» و»ذات رجل» و»الذرانح» وهي مواقع لها أهمية لدى الشاعر، لارتباطه ذلك برحيل حبيبته «فاطمة» ومطالبته إياها أن تمتعه قبل رحيلها بالحديث والنظر والتحية قبل أن يحول البعد بينه وبينها وكما خاطبها في بداية قصيدته قائلاً:
أفاطِمُ قبلَ بينكِ متِّعِيني
ومنْعُكِ ماسُئلتِ كأنْ تَبيني
فلا تَعِدِي مواعدَ كاذبات
تمر بها رياحُ الصَّيْفِ دوني
ويعبر الشعر -كما هو معلوم- عن فطرة فطر الله الناس عليها، ولا تبديل لفطرة الله، حيث يبقى هذا الحنين ما بقي الزمان، وهو فطرة في كل ذي روح خلقه الله، في الإنسان والحيوان، والطير..
وقد ذكروا في سبب الحنين إلى الوطن أقوالاً: قال أبوعمرو بن العلا: مما يدل على حرية الرجل وكرم غريزته، حنينه إلى أوطانه، وتشوقه إلى متقدم إخوانه وبكاؤه على ما مضى من زمانه، وقالوا: الكريم يحن إلى وطنه كما يحن الأسد إلى غابه.
وقالوا: يشتاق اللبيب إلى وطنه كما يشتاق النجيب إلى عطنه... وقال آخر: الحنين إلى الوطن من رقة القلب، ورقة القلب من الرعاية، والرعاية من الرحمة، والرحمة من كرم الفطرة، وكرم الفطرة من طهارة الرشدة، وكرم الرشدة من كرم المحتد.
وقيل لأعرابي: أتشتاق إلى وطنك؟
قال: كيف لا أشتاق إلى رملةٍ كنت جنين ركامها، ورضيع غمامها!