محمد سليمان العنقري
لم يختلف الرئيس الأمريكي الحالي بايدن عن سلفه دونالد ترمب في مواجهة الصين من حيث المبدأ، لكن يبدو أنه أكثر اندفاعاً لاستكمال ركائز هذه المواجهة التي يبدو أنها وضعت حجر الأساس لحرب باردة مع الصين رغم نفيه لذلك، لكنها ستكون هي سمة هذا القرن الذي تتسارع فيه التحولات السياسية والاقتصادية بشكل جذري وبدأت ترتسم فيه ملامح وجه المصالح الجديدة والتكتلات والتحالفات بين الدول من مختلف القارات وفق مبدأ إعادة تعريف المصالح بما يتناسب مع المخاطر والتحديات والمكاسب التي تهيمن على المشهد الدولي حالياً لتبني توجهاته للمستقبل ولأجل ذلك فاجأت أمريكا العالم بتحالف جديد ضم بريطانيا وأستراليا أساسه ونواته اتفاقيات عسكرية وتعاون تقني واسع في منطقة المحيط الهادئ والهندي وذلك بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان بنهاية الشهر الماضي الذي فتح الباب على تساؤلات حول مستقبل الاستقرار في آسيا الوسطى المحاذية دولها للصين ولروسيا معاً.
فالربط بين معاهدة أكوس التي سيكون مسرح عملياتها في المحيطين الهادئ والهندي والانسحاب من أفغانستان لا يمكن فصلهما عن بعض فكلاهما بقرب الصين جغرافيا ويضاف لذلك ما أعلنه الرئيس بايدن في قمة السبع الكبار عن مبادرة إعادة بناء العالم التي تعد المنافسة لمبادرة الحزام والطريق الصينية التي أطلقت عام 2013 وخدمت الصين كثيرا بتوسعها بالتجارة الدولية حيث انضمت لها 68 دولة وباتت معها الصين الأكبر حجما في التجارة الدولية وتستحوذ على أكثر من 13 في المائة منها وحتى تعطي الصين لنفسها موقع قوة اكبر لا بد أن تحمي مصالحها بالخارج بتحركات عسكرية ولذلك رفعت من إنفاقها العسكري الذي زاد بنسبة 76 في المائة خلال الأعوام العشرة الماضية لتكون الأعلى نمواً وليس حجماً بالإنفاق العسكري عالمياً وترى أمريكا بالمقابل أن منطقة المحيطين الهادئ والهندي لا يجب أن تتحكم فيهما أي قوى خصوصا الصين وأنها يجب أن تبقى منطقة مفتوحة وهذا ما سارع من تشكيل هذا التحالف مع أستراليا وبريطانيا التي انسحبت من الاتحاد الأوروبي وهي الأكثر قربا لأستراليا وأمريكا سياسيا وتريد أن تبقى حاضرة بالمشهد الدولي لتحقق مكاسب تعوضها عما فقدته من خروجها من الاتحاد الأوروبي لفضاء أوسع نطاقاً مستفيدة من إرثها ومكانتها الدولية.
فالمحيط الهادئ تمر عبره تجارة بتريليونات من الدولارات وهو يعادل بمساحته ثلث مساحة الكرة الأرضية بمقدار 170 مليون كم مربع ويمتد لمسافة 15500 كم وتطل عليه أهم الدول اقتصاديا في العالم من حيث تسارع معدلات النمو الاقتصادي وتركز لأجل ذلك أمريكا عليه وتعتبره أولويتها السياسية للمستقبل فلو هيمنت الصين على تلك المنطقة التي يقطنها أكثر من نصف سكان العالم بحسب مخاوف أمريكا فهذا يعني تبخر هيمنة أمريكا الدولية وتراجعها لتصبح قوة ثانية أو ثالثة دولياً مع مخاطر قد تعصف بوحدتها الفيدرالية خلال العقود الثلاثة المقبلة إذا نجحت الصين بالتربع على عرش الاقتصاد العالمي ودعمت ذلك باستقلال تكنولوجي ونقدي وانتشار عسكري وتحالفات أكثر قوة وترابط مع مختلف دول العالم بكافة القارات بينما تعتقد أمريكا أن فائض القوة لديها حاليا وبالشراكة مع حليفين مهمين بريطانيا وأستراليا حيث يشكل ناتجها الإجمالي 30 في المائة من الناتج العالمي للدول الثلاث بحجم 26 متريليون دولار وعدد سكانهم يبلغ قرابة 440 مليون نسمة فسيكون لهم قدرة هائلة لمواجهة الصين ومنعها من التقدم أكثر بخططها للانتشار دولياً وخصوصا بمنطقة المحيطين الهادئ والهندي ولأجل ذلك لم تتردد أستراليا لتوجه لأمريكا باستبدال صفقة الغواصات من فرنسية إلى أمريكية لأن المصالح التقت أكثر مع أمريكا التي أوضح رئيسها بايدن خططه لمواجهة الصين وبحكم جغرافية أستراليا بالقرب من الصين فلذلك رأت أن تغيبر البوصلة هو الاستراتيجية رغم ما تسبب به هذا الإعلان من طعنة بالظهر لفرنسا ومساس بمكانتها الدولية وتشويه لصناعاتها العسكرية حسب وصف المسؤولين الفرنسيين لكن يبدو أن واقع المواجهة مع الصين أكثر أهمية من اهتزاز العلاقة ليس مع فرنسا فقط بل حتى الاتحاد الأوروبي الذي لا تلتقي مصالحه كثيرا أو بالمطلق في التعامل مع الصين كما تراها أمريكا وحليفتها أستراليا وداعمتهما بريطانيا.
ما حدث في اتفاقية أكوس وما نتج عنه من غصب فرنسي بسبب الطعنة الكبيرة في العلاقات الأسترالية والأمريكية معها واستدعت لأول مرة سفيريها للتشاور بالدولتين في سابقة غير متوقعة يشير إلى تحولات المصالح في القرن الجديد وإعادة ترتيب أولويات الدول العظمى وقد تبدأ ملامح السياسة الدولية المقبلة بالتشكل بوتيرة أسرع خلال العقد الحالي فما يحدث ليس بيعاً أو شراء للتحالفات بل بناء على أسس الأولويات والمخاطر لكل دولة أو تكتل إقليمي والهدف في نهاية المطاف هو الحفاظ على التفوق الاقتصادي وزيادة المكاسب فيه وتجنيد السياسة والجيوش لأجل ذلك الهدف فهذا قرن الاقتصاد وليس الأفكار والصراعات الايديولوجية التي سادت في القرن الماضي وانتهت مواجهاتها الكبرى بتفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991 فمن يعيد رسم خريطة مصالحه وفق معطيات العصر الجديد سيكون بالمقاعد الأمامية في ميدان سباق الدول وتنافسيتها في التنمية والتطور التقني في كافة المجالات.