بمشاعر الاغتباط والاعتزاز يستقبل المواطن السعودي اليوم الوطني الواحد والتسعون لوطن يسابق نفسه والزمن، وينافس على المراكز الأولى عالميًا في مؤشرات الاقتصاد والأمن وريادة الأعمال والرعاية الصحية والتعليمية وجودة الحياة، وطنٌ حباه الله عز وجل قيادةً رشيدةً مملوءةً طموحًا وشغفاً، قيادةٌ آمنتْ -بعد إيمانها بالله- بشعبها وبذلت له واستثمرت فيه وراهنتْ عليه وتوجهت إليه، فبادلها شعبها العطاء بالعطاء والبذل بالبذل والولاء بالولاء، حتى حلَّق الوطن بجناحيه عالياً عالياً، وصارت الإنجازات السعودية سواء كانت فردية أو أهلية أو حكومية مشهدًا مألوفًا في ساحات المنافسة الدولية على كافة الأصعدة وفي عامة المجالات، وأصبحتْ المملكة العربية السعودية اليوم -بفضل الله أولًا ثم بفضل قيادتها الطموحة- أنموذجاً مُلْهِماً يشد أنظار دول العالم ويستقطب اقتصاداتها ويكسب رهاناتها وتستلهم تجربته.
لم يكن طريق الوطن إلى هذا الأنموذج المستنير مُعَبَّداً ولا مفروشاً بالورود، ولكنه كانَ -بعد فضل الله- نتاجَ عهد قديم وتلاحمٍ متين بين قيادة رشيدة استطاعت ببراعة واقتدار أن تشق للوطن طريقاً لاحِباً في بحرٍ متلاطم من الأوطان المضطربة سياسياً واقتصادياً وأمنياً حولنا، إلى حيث الأمن والاستقرار والنماء والتقدم، وبين شعبٍ واعٍ وفيٍّ نبيلٍ تحطمتْ على صخرة صموده وولائه حملات التشكيك والشائعات والفتن والقلاقل والدسائس على امتداد عمر الوطن منذُ تأسيسه.
إن هذه الذكرى الوطنية العزيزة حين تمر بالمواطن السعودي اليوم ليتلفتُ بعين الإكبار والإجلال إلى الجيل المؤسس بقيادة الملك عبدالعزيز -رحمه الله-، الذين بذلوا من أنفسهم وأموالهم وأعمارهم في توحيد هذه الجزيرة المترامية الأطراف المختلفة القبائل المتفرقة الأمصار المتباعدة الأقطار، حتى غدت وطناً واحداً يحن شماله لجنوبه وشرقه لغربه، فصدر المرسوم الملكي بإطلاق اسم «المملكة العربية السعودية» على هذا الوطن المتجانس المتآلف المتكاتف ابتداءً من 21 جمادى الأولى 1351هـ الموافق 23 سبتمبر من عام 1932م، ومن ذلك التاريخ والذكرى تتجدد حاملة معها عبق الماضي ونشوةَ الحاضر وتفاؤل المستقبل.
إن استشعار حجم التضحيات التي قدَّمها جيل الآباء المؤسسين لتُحَمِّل الجيلَ السعودي الجديدَ مسؤولية الحفاظ على تلك المكتسبات الوطنية وحمايتها والدفاع عنها بكل شيء، كما تشعره بعمق انتمائه الوطني، وتحفزه على مواصلة مسيرة التطوير والبناء من حيث انتهى الآباء، وهنا أستحضر قصة عميقة المعنى أوردها أمين الريحاني عن الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- أثناء بناء قصر المربع؛ إذ لحظ الملك أن (البَنَّاء) قد كتب على مدخل قاعة الاستقبال البيتين التاليين:
لسنا وان كرمتْ أوائلنا
يوما على الأحساب نتكلُ
نبني كما كانت أوائلنا
تبني ونفعل مثلما فعلوا
فأمره الملك عبدالعزيز أن يعدل البيت الأخير ليصبح:
نبني كما كانت أوائلنا
تبني ونفعل (فوق) ما فعلوا
إن هذه القصة على عفويتها وبساطتها لتكشف عن ركن أصيل من أركان تأسيس الدولة السعودية الثالثة، أعني التطوير والتقدم، وابتداء كل جيل من حيث انتهى سابقه، كل جيل يسخّر ما استطاع من منجزات عصره وإمكانيات زمانه في خدمة الوطن ونمائه.
هكذا اختط عبدالعزيز مسيرة الوطن وهكذا شاءها وهكذا أضاءها: نهوض بلا توقف وعمل بلا كلل ودأبٌ بلا ملل، وعلى عهده سار أبناؤه الملوك البررة من بعده، فتراكمتْ المنجزات حتى كان عهدُ الملك سلمان بن عبدالعزيز انطلاقةً جديدة ونقلة نوعية على مستوى الشكل والمضمون من خلال الرؤية الوطنية الطموحة التي بدأ الوطن يقطف بواكير تباشيرها وثمارها، وما زالت واعدة صاعدة، ولله الحمد والمنة.
** **
د. عبدالله بن عبدالعزيز التميم - وكيل جامعة الإمام للدراسات العليا والبحث العلمي