مع تعدد المخرجات التشكيلية ومعاصرتها, تدخل بعض حالاتها في إشكالية الوصول للمتلقي, وتكمن هذه الإشكالية إما في عدم وضوح الفكرة أو التساؤل عن نوعية الخامات أو ماهية التقنية المنفذة للمنتج التشكيلي فيتمثل دور الناقد هنا بأن يكون الوسيط بين المخرج التشكيلي والمتلقي, حيث تكون وظيفة هذا النقد هي تحليل ووصف الحالة التشكيلية بمعايير النقد الجيد لوصولها للمتلقي دون الانتقاص في العمل أو الفكرة أو المهارة المنفذة لذلك, هكذا نكون ساهمنا في حل هذه الإشكالية بحيث يصل مفهوم التجربة التشكيلية إلى المتلقي بكل وضوح, فيكون بذلك نجاح الاتصال بين الفنان والمتلقي من خلال العمل.
وقد تكون الإشكالية الثانية بين الناقد والفنان التشكيلي, حيث يتقمص بعض النقاد التشكيليين دور المتربص أو المنتقص أو مبتكر لما هو مخل في جودة العمل أو التجربة التشكيلية, وهذه الإشكالية إنما تدل على جهل من الناقد بماهية النقد الفني, وحدود فهم هذا الناقد لا تتجاوز حدود البحث عن العيوب والحكم على المخرج التشكيلي بجودته أو ضعفه أو إبرازاً لعيوبه, ولنا أن نسلم بأن هذا لا يعتبر نقداً فنياً وقد يوقع الناقد في دائرة غير المرغوب فيهم في الميدان التشكيلي, ولكن هذا الناقد الفني ما هو إلا القارئ الحذق للعمل الفني والملم بالخبرة الفنية والمتمكن من دراسة هذه التجربة التشكيلية أو كل ما يتصل بالفنان التشكيلي سواء كحدث اجتماعي أو مخرج تشكيلي, حيث يكون هذا الناقد ملماً بالثقافة التشكيلية مجملةً ومتمكناً من الأدوات الكتابية الجيدة, فإن كان الناقد التشكيلي ملماً بكل ذلك ومتحلياً بالحيادية وأخلاقيات النقد الفني عندها سيقدم القراءة التشكيلية والتي هي بمثابة البيان التوضيحي ذو المعايير النقدية الجيدة ليصف فيه حالة الحدث التشكيلي دون انتقاص أو تحييز, ويتحلى الناقد التشكيلي بالموقف المحايد والخبرة التشكيلية والثقافة بالبيئة المحيطة بالحدث التشكيلي, متعايش مع مراحل التجربة, قارئ ومهتم بأدواته حتى يستطيع أن يقدم القراءة التشكيلية بمصداقية عالية.
جدلية النقد الفني والانتقاد
عندما نعود لمراجع اللغة والمصطلحات لنبحث عن معنى النقد نجد بأن هذه المعاجم اللغوية تتفق بأن النقد هو (تمييز الجيد من الرديء) سأختار بعضاً من هذه التعريفات, وسأحاول أن أبلورها حول مفهوم النقد والقراءة التشكيلية, لأبرأ ساحة النقد الفني من مفهوم تقمص دور المخبر الباحث عن نقاط الضعف وجعلها تحت بؤرة اهتماماته الرئيسية.
ذكر في معجم لسان العرب معنى النقد على أنه الانتقاد وهو التربص بالعيوب ?
النَّقْدُ : فنُّ تمييز جيِّد الكلام من رديئه ، وصحيحه من فاسد
نقَد الشّيءَ : بيَّن حسنَه ورديئه ، أظهر عيوبه ومحاسنه
نقَدَ الشَّيْءَ أَوْ إِلَيْهِ بِنَظْرَةٍ : اِخْتَلَسَ النَّظَرَ إِلَيْهِ
انتقادية : مصدر صناعيّ من انتِقاد : نزعة ترمي إلى الإصلاح عن طريق إبداء العيوب أو المساوئ في عملٍ ما انتشرت السلبيّات نتيجة لافتقاد الانتقاديّة
انتقد الدراهم : ميز منها الزائف.
أما في قاموس المحيط فقد ذكر تعريف النقد بأنه
نَقد الشيء نقداً : نقره ليختبره أو يميز جيده من رديئه
كما ذكر في قاموس المحيط معنى الناقد الفني وهو «كاتب عمله تمييز العمل الفني جيده من رديئه , وصحيحه من زيفه» ص 944 .
تعددت صياغة التعريفات لمعنى النقد لكنها تحمل نفس الجوهر وهو تمييز الجيد من الرديء, هنا سنقف قليلاً لنفهم دور الناقد (الفني) وهل هو متربص للسيء وهل يحق له كناقد تشكيلي أن يبرز ما يعد ضعفاً بالمخرج التشكيلي ؟ كيف ؟ وإن حدث متى يكون ؟
حينما يقوم الناقد التشكيلي بإعداد ورقة نقدية لمخرج تشكيلي, يكون هناك عدة خطوات قبل تدوين هذه الورقة, بدايةً بالتهيئة وانتهاء بإخراج الورقة النقدية الجيدة.
في أولى خطوت إعداد الورقة النقدية, حيث يبحث الناقد التشكيلي عن الحدث الذي يتطلب عمل هذه الورقة النقدية, سواء حدث متعلق بالساحة التشكيلية أو مخرج تشكيلي أو ربما تجربة تشكيلية أو حالة تشكيلية, وغالباً ما تكون الورقة النقدية هي صورة لحالة استفزاز تعتري هذا الناقد, حيث يستفزه الحدث ليثير فيه شهية الكتابة وإحساسه بأهمية الورقة النقدية لتوثيق وتفسير وتحليل هذا الحدث وهو متحلي بكل قيم وأخلاقيات الناقد الفني (المصداقية, الثقافة الخبرة, المحايدة) ثم بعدها يقوم الناقد باستطلاع حول هذا الحدث التشكيلي ما هي بدايته وظروف العمل المحيطة المؤثرة به والمتأثرة منه, أو ما يترتب عليه كتابة هذه الورقة النقدية, ثم يهيئ الناقد أدوات الكتابة من خلال خبرته التشكيلية ليسخرها في قراءة هذا الحدث التشكيلي, موضحاً بلغة بسيطة ومنظمة جوانب هذا الحدث التشكيلي مروراً بمراحل وصفه وتفسيره, كما يحلل هذا الحدث التشكيلي حسب مدلولاته وظروفه, ثم يصيغ بذلك الحكم على هذا الحدث دون انتقاص أو تبجيل مبالغ فيه. فيكون بذلك قد أعد ورقة نقدية بمعايير جيدة لتصف وتفسر وتحلل هذا الحدث التشكيلي بخبرة تشكيلية وأدوات كتابة صحيحة.
إذاً كيف يكون إبراز العيوب في هذا الحدث التشكيلي؟ وكيف يكون النقد الفني موجة للعيوب رغم أن ليس من وظيفته إبراز العيوب؟ وكيف سيستفيد الممارس التشكيلي من النقد إن لم يوجه لإبراز العيوب ويتمكن الممارس التشكيلي من علاجها وتطوير مساره؟
أولاً لنتحدث عن الحدث التشكيلي الذي من خلاله ستتضح لدينا رؤية متى يكون الناقد الفني (منتقد).
الحدث التشكيلي الذي يثير الكتابة ويثير قراءة الناقد إنما هو نشاط فني مجتمعي مؤثر في الساحة التشكيلية, أو مخرج تشكيلي, أو قد يكون تجربة تشكيلية. هذا النشاط التشكيلي حين يطرأ على الساحة التشكيلية أو المجتمع المحيط أو ممارسة مجتمعية متعلقة بالفنون التشكيلية, مثلاً كمشاركة في تزيين شوارع المدينة بفن الجرافيتي أو ربما دعوة لمسابقة تشكيلية مبهمة الأطراف, أو قد يكون هذا الحدث التشكيلي عبارة عن رحلة تشكيلية برسوم مادية وهذه الرحلة تكون غير موثقة تحت مظلة جهة رسمية, أو قد يكون مشاركات مفتوحة للرسم المباشر بإحدى الفعاليات, وكثير من النشاطات التي ترتبط بالفنان التشكيلي وبالوسط التشكيلي, هنا يكون تدخل الناقد الفني الجيد لطرح الورقة النقدية دوره في إبراز إيجابيات هذه الأنشطة والإشارة إلى عيوبها, حتى يضع الخيارات أمام الفنان التشكيلي بشكل واضح خصوصاً عندما يكون اندفاع الفنان التشكيلي وراء الحدث حباً للمشاركة دون التأني لمخاطر بعض من هذه الأنشطة التي قد تكون تشويهاً أكثر من تجميل وقد تكون استغلالاً أكثر من خدمة, وقد تكون مسيئة لمسيرة الفنان وخاصة من المبتدأين الهواة الذين يبحثون عن فرص للمشاركة حباً في الفن, فالقراءة التشكيلية هنا تسلط الضوء على العيوب والأخطار وما يترتب عليها, وذلك لتوعية بصيرة الفنان التشكيلي بعدها يكون له الخيار فيما بعد لتصحيح المسار أو المضي قدماً, كما يكون هنا دور الناقد الفني واضحاً ومحسوباً عليه في كل نشاط يحاول استغلال المواهب وبذلك يكون للناقد الدور الفاعل بمنع هذه النشاطات التي تنعكس سلباً على مسيرة الفنان التشكيلي, هنا يكون إبراز العيوب للناقد الفني واجباً وليس خياراً.
أما في المخرج الفني, فدور الناقد التشكيلي هو القراءة لماهية هذا المخرج دون تبجيل مبالغ فيه أو استنقاص, فالفنان التشكيلي قد عرض هذا المخرج التشكيلي وهو راض عنه, وانتقاء الناقد الفني للعمل إنما يكون للمخرج الناضج, والمثير لشهية الكتابة, والذي يرغب المتلقي في فهمه وفك رموزه, فتصف الورقة النقدية وتحلل تقنيات العمل وتفسر ماهية الفكرة والتقنيات المنفذة, لتحكم على المخرج بنقاط القوة التي استدعت لقراءة هذا المخرج التشكيلي, هنا ليس للناقد الفني دور في إبراز العيوب أو اختلاقها.
التجربة التشكيلية, وهي مخرجات تنضج بعد ممارسات تشكيلية متسلسلة من الفنان لإحداث مخرج غير تقليدي في الفترة الراهنة والتي يعيشها الفنان, حيث يكون له الأسبقية في إبراز فكرته وتقنياته, فتجري هذه التجربة التشكيلية فارضة لنفسها على الناقد الفني لقراءتها, حيث تصف القراءة النقدية لهذه التجربة التشكيلية ومراحل تطورها مع تحليل لكينونة هذه التجربة وظروف أحداثها وطبيعة خاماتها وأدواتها وتقنياتها وسيكولوجيتها التي تنبثق من خبرة الفنان التشكيلي المستمرة بالممارسة والعميقة بالفكر الموجه والقصدي من خلال هذه التجربة, وصولاً إلى نضج هذه التجربة حيث يتناولها الناقد دون تبجيل مبالغ أو استنقاص, وفي الحكم يقف الناقد الفني على جوانب العمل التي أثارته لكتابة هذه الورقة النقدية وإبرازها والإشادة بها بدون مبالغة, ودون استنقاص أو اختلاق عيوب بهذه التجربة.
ثانياً متى يستفيد الممارس من (انتقاد) الناقد الفني؟
أرى بأن انتقاد العمل الفني هو حوار بين الناقد والممارس التشكيلي بشكل مباشر حيث يستفيد الممارس من خبرة الناقد في إبراز وهن المخرج التشكيلي، ولكن هذه الانتقادات ليست نقطة مضافة في الورقة النقدية وليست مهارة للناقد يجب أن يسلط الضوء عليها فالورقة النقدية ما هي إلا قراءة مقدمة عن المخرج التشكيلي الجيد والمثير للكتابة والقراءة التشكيلية.
** **
امنه صالح - ماجستير تربيه فنية