حاورها - محمد هليل الرويلي:
شاعرة مبتكرة للمدنيّة وفنون الحياة، الشعر في شرعها موقض للأمم, وباعث للشعوب. تَصقل المرايا, والغُدرَان, ووجُوه الحيَارى والمسافرين والحالمين بظلال أفياء قصائدها (الوارفة الكثيفة) المُلقاة على الحاضر..
(هيفاء الجبري) الشاعرة المتحضرة, المورقة, النامية, المتهدلة الأغصان والمشسوعة الأفنان, استضافتها الثقافية فكان هذا الشدو والبوح الشاجي..
** قد يكون من مثار الحيرة الولوج في مستهل الحوار السؤال: عن حال «ميسون» ما إن كان ربق قصيدتك أطبق عليها وثاق وعُرَى - اللهفة ومرارة الأشواق والحنين - إذ من غير الممكن إعتاقها أم أن القصيد أعتقتها حقًا وهي - اليوم - تسبح مُنعّمَة يتردد اسمها في واحدة من أجمل روائعك تضافر لها (القصيدة المغناة : دمشق) النجاح، وأجادت الفنانة سهيلة بهجت أداءها. بعد ذلك نتساءل عن قصائد الشّعر الفصيح متجاوزين الندرة التي حققت الانتشار لا أثر لها يتردد بين حناجر الفنانين الغنائيين أو عند شركات الإنتاج الفنية؟
لستُ أجزم إن كانت ميسون وهي الآهلة حنينًا وشوقًا قد كفت عن دأبها في استشعار اللهفة إذ لو كان هذا احتمالاً واردًا لما كنت أستحضرها وأنا في ريعان الشعر باحثة عن روح تشاطرني الحنين إلى ذات المكان.
كما أنني لستُ أجزم إن كانت «دمشق» قد اكتفت بما رواه عشاقها الأوائل عن ما نرويه نحن الأواخر أم أنها ستجعل من:
“وليس يكفي من المحبوب معظمه» شعارًا مكرسًا لذاتها المبجلة.
على أية حال، إذا لم تكن القصائد الفصيحة تتردد في حناجر المغنين، فلن نعترض على خيارات الزمن، لأن ثمة حناجر أخرى جديرة بأن تحمل القصيدة إلى بقاع شتى في الأرض.
ألم تسمع يومًا حنجرة البحار، وهو يتغنى بفرائد الكلمات ليصطاد بها فرائد اللؤلؤ!
ألم تُحمل القصائد فوق النخيل لجلب الثمار من أعاليها!
ألم ترتفع بها حناجر المغتربين حنينًا إلى أوطانهم والمتعبين خلاصًا لأرواحهم!
إن الشعر كائن مغامر لا يلتزم بمكان على افتراض أن المكان الأولى به هي حنجرة الشاعر.. فضلاً عن أن يرتبط بحنجرة فنان غنائي.
لذلك لستُ قلقة على غياب القصيدة الفصيحة عن الغناء فحتما سيكون لها شأنها يومًا ما حين تتهيأ لها سبل الازدهار ويصبح المتلقي جاهزًا للتعاطي مع الفصيح.
** المتابع لتجربتك الشعرية ومشوارك الإعلامي «الرزين» يلحظ أنك تسيرين بنهجية مدرُوسة وخطوات محسوبة كان لك فيها الحفاوة في الملاحق الأدبية والصفحات الثقافية توجتك لحصد الجوائز الأدبية وحظًا وافرًا بين النقاد يوازيه مسعاك في مسارك العلمي الذي تحققنه - بحول الله - قريبًا ليعزز ويتوج هذا الحضور اللافت الواهج. في ظل مغريات وفيرة متنوعة تتنازع أيدي الشعراء والشاعرات والكتاب «شبكات التواصل الاجتماعي» لم تنجذب هيفاء للبريق، رسالة منك مشفوعة لهذا الزمن ومشتغليه كيف يمكن للمبدع الحضور والمضي قدمًا دُون أن ينزلق؟
لا أعرف إن كانت «شبكات التواصل الاجتماعي» تمثل حقَّا إغراءً للمبدعين فهي كما يوحي بها الاسم أداة تواصل «اجتماعي» لا تواصل «إبداعي» مما يعني أنها وسيلة للتعارف أكثر من كونها محفزًا للمبدع على الإنتاج.
ولا أخفيك كم أنا ممتنة لهذه الشبكات إذا تحدثنا على مستوى «التواصل أو الإيصال» فكم من قطعة أدبية استطاعت أن تتجاوز الآفاق وتصل إلى أقاصي الأرض بفضل هذه الوسيلة.
لكن حين نتحدث على مستوى الإنتاج فليس من الإبداع في شيء أن تجعل انتماءك له في الدرك الأسفل بينما يتصاعد لهاثك لهتافات المتابعين المحملة بخوارق المدائح
ففي هذه الحالة لا تكون الكتابة عملاً مبجلاً إنما تصبح مزاولة لحرفة تدر على صاحبها منافع آفلة لا حِملَ لها على البقاء.
إذ إنها تزول حال انقطاعه عنها.
إن النظر إلى الأدنى باعتباره سهل التناول أمر معقول ومقبول لكن النظر إلى البعيد يمنحك قوة البصيرة والشوق إلى المسير واستشعار لذة الوصول بعد جمال الرحلة.
** صياغة الأداب لا تأتي من فراغ بل لا بد من وجود محركات تصحبها «مكانية وزمانية ولغة محركة لقضية وتجربة مجتمعية أو خاصة...» يعبر عنها نتاج المبدع. كشاعرة ما الهاجس الذي يشغلك والقضية التي تودين أظهارها على سطح كوكبنا؟ وهل حقًا الشاعر لا يطلب الإعجاب أبدًا، بل يود أن يصدقه الآخرون كما ذكر «جان كوكتو» وهي السلوى والعزاء والمرض كما ذكر أيضًا؟
سطح كوكبنا مسكون بحب القضايا.. إذ لو لم يكن كذلك لما قاسمناه حب البقاء..
أحيانًا تحركنا رغباتنا وفي كثير من الأحيان تمسك المخاوف بزمام أفئدتنا لتفتح دروبا وتغلق أخرى.
الإنسان بكل حالاته هو قضيتي الكبرى، ولو أردت أن أعبر عنه بصورة أدق لقلت أنه هو الكوكب، ففي قلبه بحار وفي عقله قمم وفي مخيلته نجوم وفي سكينته نسائم وفي قلقه حمم..
الإنسان الذي يظل في بحث مربك عن ذاته منذ ميلاده إلى أن يودع جوف الأرض
بصمت غير معتاد.
الإنسان الذي يظن أنه بموته ينقطع عن الحياة بينما هو في الحقيقة يسكن جوف الأرض تاركًا من هم فوقها يحتفون بمآثره.
الإنسان «الخليفة في الأرض» يزرعها ببسمته ويرويها بحكمته ويبنيها بشدته ويرعاها برحمته.
لا شيء يشغلني عن الإنسان باعتباره الكائن الأسمى، وإن كتبت عن الطبيعة فإنما أعني تجليات هذا الإنسان في تلك الطبيعة.
أما عن مقولة «الشاعر لا يطلب الإعجاب» اتفق مع ذلك باعتبار أن الإعجاب ليس إلا مطلبًا هامشيًا أمام مطلب التصديق أو الخلود..
** يقول الشاعر نزار قباني: «إن مشكلة - شعراء (الرموت كونترول) أنهم مستعجلون جدًا، ويريدون أن يطبخوا أعمالهم الشعرية الكاملة بخمس دقائق، دون أن تكون لديهم المواد الأولية اللازمة، من سمن، وزيت، ولحم، وطحين، وبهارات، وعبثًا نحاول أن نقنعهم، أن الطعام العربي دقيق جدّاً، ومعقَّدٌ جدَّاً، ويتطلب الصبر الطويل، والخبرة المهنية، والكرم الحاتمي... ولكنهم لا يسمعون النصيحة، ويظلون على قناعاتهم، بأن أبا الطيب المتنبي تعلم الطبخ في مطعم (ماكدونالد)...»هذه الرسالة القاسية والساخرة - معًا - قد نتفق معها : شعراء متذوقين ونقاد بعد ذلك هل من رسالة أقسى توجهها شاعرتنا اليوم؟
تلك هي القسوة الرحيمة
فإن يمكث الشاعر وقتًا أطول في إعداد قصيدته ثم يتناولها المتلقي مستشفيًا بها عقله وروحه خير من وجبة سريعة بتكرار تناولها ينتكس الذوق وتعتري المتلقي تخمة الأكلات ذات الدهون المشبعة.
ودعني أقف هنا وقفة لعلها رسالة لي أولاً قبل أي شاعر آخر.
كيف يستطيع الشاعر تقييم ما إذا كان حقاً.
من صنف شعراء الوجبات السريعة الذين ينتجون في اليوم آلاف الوجبات أم أنه من صنف الطهاة العالميين الذين لا يعرفون طريقة إعداد الوجبة فحسب بل يعرفون منشأ كل مكون من مكوناتها ومدى جودته وقيمته الغذائية وانعكاسه على صحة الإنسان؟
وباعتبارنا نعيش في زمن متسارع فنحن لا نفترض عبثًا أن يكتب الشاعر الحوليات كأسلافه الذين زامنت كتابتهم القصيدة الواحدة الفصول الأربعة.
لكننا ندعو الشاعر إلى أن يحذو حذو العداء كما أشار إلى ذلك الكاتب راي برادبيري في كتابه «الزن في فن الكتابة» حين قال «وكذلك العداء فلكي يتمكن من قطع مئة ياردة عليه أن يقطع عشرة آلاف ميل ركضا».
** النَّقد أعطا أحكامًا لكل ما يحيط بنا ولَمّا كان الشّعر العربي مُنذ التاريخ الجاهلي إلى واقعنا الأدبي الأني «العيّنة» التي تلفتت إليها وتجمعت راسخة شاخصة نحوها أعين النُّقاد، بدوركم كشعراء إن كان لا بُد من تشخيص للواقع النقدي الذي وجدتم إبداعكم رهينه عبر أزمنة «رضًا ولا رضى» ما أبرز ما تتضمنه رسائل ضيفة العدد للناقد العربي؟
الناقد متحسس لمواضع القوة والضعف في كل ما يحيطه فهو بدوره يعزز جودة الحياة وإذا تحدثنا عن الناقد الأدبي تحديدًا، فأنا بدوري كشاعرة خضعت قصائدها لقراءات نقدية من عدة نقاد لا أملك إلا أن أقف إجلالاً لكل من ساعدني على رؤية قصائدي من زوايا مختلفة، ولئن كان الناقد يعطي أحكامًا فهو بلا شك يقدم أحكامًا غير قاطعة تاركًا المساحة الأرحب لتعدد وجهات النظر ولست مع فكرة أن الناقد الأدبي متطفل على النص أو متطاول عليه فهو في المحصلة مسؤول يؤدي دوره الذي خلق من أجله متجاوزًا بذلك ما قد يواجهه من دعاوى التكلف أو المحاباة أو اللامبالاة..
وعلى الجانب الآخر أرى أن كل ما يحتاجه الواقع النقدي الأدبي هو الانفتاح على الحديث بالقدر الذي يسجل مآثر النصوص الأدبية الحديثة ويتوج حضورها.
** قبل أن نودعك بموفور (الشكر وجزيل الامتنان/ وباقات زهر وأكاليلها تتوجك يا متوجة) لتلبيتك دعوة الثقافية, عن الشّعر محليًا وعربيًا حدثينا عن ألمع أسماء المرحلة وقضاياه المعاصره والمستقبلية المتوقعة - وعن ديوانك القادم والمواضيع أو العناوين التي يحمل، ورسالتك الأخيرة التي تودين توديع محبيك والقراء بها؟
كيف لي أن أودع الثقافية وهي التي احتضنت قصائدي منذ البدايات فلها أكنّ عظيم الامتنان ووافر التقدير.
أنا هنا لست في مقام مودع ولن أكون فانتماءاتي لها كفيلة بالتنويه بها في كل حواراتي عن بدايات الشعر ولن أقول نهاياته لأن الشعر لا منتهى له.
الشعر يريد منا الكثير على المستوى المحلي والعربي فكيف نجعله منهج حياة هذا ما علينا أن نأخذه بعين الاعتبار مستثمرين التقنية في إيصال رسالته الجليلة.
الشعر أيضًا يريد منا أن نخرج به عن المألوف وأن نتجاوز المحلي إلى العالمي أحيانًا لئلا تكون القصيدة حكرًا على أغراض شعرية لا تكترث لتوجهات الإنسان الحديث.
الشعر يريد منا أن نفكر قبل أن نكتب..
أن تكون القصيدة فلسفة شائكة بلغة شعرية براقة إن ترجمت إلى لغة أخرى فستحمل الوقع ذاته على المتلقي في الطرف الآخر من العالم.
ورسالتي الأخيرة للشعر الذي لم أكتبه بعد.. أقول له:
«أنا في شوق إليك ولا أعلم متى ستبدو مجددًا في حياتي التي كرّستُ جميلها لك.. أشتاق إليك وأرجو أن تباغتني حين تأتي، فأنا بطبعي أحب المفاجآت السعيدة التي تنقلني من واقع جميل إلى آخر أجمل..
حين تأتي سأترك كل ما في يديّ.. سأنصرف من عملي مبكرًا، وأجلس في وقت متأخر من الليل إن شئت لأكتبك، لا أعرف أي وقت تفضل لكنني على ثقة بأن كل أوقاتي مسخرة لعطاياك.
ولا تقلق إن لم أستقبلك بالورد والسجاد فقلبي محمل بالحدائق ولك أن تأخذ منه ما تشاء وتزرع فيه ما تشاء.
أيُّها الفردوس»
** ** ** **
شيء عن «هيفاء الجبري»
المؤهلات العلمية:
• ماجستير في الترجمة (لغة إنجليزية) من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
• بكالوريوس في الترجمة (لغة إنجليزية) من جامعة الملك سعود
إنجازات الترجمة :
• ترجمت إلى العربية الفصل العاشر من كتاب («( Zen in the Art of Writingالزن في فن الكتابة» للكاتب راي رادبيري وصدر عن الدار العربية للعلوم ناشرون في العام 2015
• ترجمت إلى العربية رسالة دكتوارة بعنوان «نقد نظرية المدار: إعادة رسم خارطة النظريات الغربية حول أصول الشريعة الإسلامية» للأستاذ الدكتور فهد الحمودي- تاريخ الإصدار: 2014
• ترجمت عدة مقالات من الإنجليزية إلى العربية
الإصدرات :
• «تداعى له سائر القلب» ديوان شعر من إصدارات النادي الأدبي بالرياض 2015
• «البحر حجتي الأخيرة» ديوان شعر من إصدارات مؤسسة الانتشار العربي 2016
• «الصدى يخرج من الغرفة» ديوان شعر من إصدارات دار تشكيل 2020
الجوائز :
• جائزة الأمير عبد الله الفيصل للشعر العربي فرع القصيدة المغناة 2020