ممددة على السرير، أنظر إلى السقف، أبدو هادئة وراضية، لا صوت أسمعه إلا صداه مُرتدًا بين هذه الجدران، كان يوقظني - فجر الجمعة - في مثل هذا اليوم:
ابنتي ماريا، استيقظي.
لقد صليت.
وبعد ساعتين يفتح باب الغرفة:
سأذهب لشراء بعض الخُضار، اطبخوا صينية اللحم بالطماطم أو برياني اللحم أو اتصلي بأختك؛ لتسأليها عن الطبق الذي عملته قبل ليلتين عند زيارتي لها.
هكذا يتقطع نومي، يمكنه قول كل تلك التوصيات بعد عودته من السوق، ثم إنني لست المسؤولة عن الطهي، فما الذي يحدث اليوم لأصير عنصرًا أساسيًا في المطبخ؟ فجأة أصير الوسيط بينه وبين أمي التي ستُعِد الطعام؟! لكن هكذا تجري الأمور، ولابد أن ألقى لها جوابًا وتفسيرًا، لهذا كنت أحاول ردع مشاعر الاستياء جراء تقطع النوم، بفكرة:
إنه يفعل ذلك لإنعاش البيت الذي يخمد خلال الأسبوع، لهذا لا يفكر عندما يناديني ويكلمني عن أشياء يمكن تأجيلها، فهو يتمنى لي الراحة ولا يقصد تبديد راحتي، ولكن المهم عنده أن يقول ما يضمره في جوفه من توصيات وأوامر أبوية، أصبحت أمتلك التفسيرات لأفعاله، وقد تكون ساذجة أو منحازة، لكن لابد أن أوجد له مخارج تتناسب مع شخصيته ونفسيته وطباعه، فالإنسان لا يتشكل من فراغ، ولا يصدر سلوكًا من خلفية بيضاء، ببساطة أستطيع فهم الإنسان العاطفي لن يتوقف عن توصيات العناية بغذاء أبنائه، حتى وإن كبروا، فلن يتقبل فكرة أنهم لا يرغبون في الأكل الآن، أو لا يحبذون هذا الصنف، هكذا كانت العاطفة تدفعه لملء بطون الأبناء والأحفاد، ثم بعدها لا مانع أن يتوزعوا، المهم أن المائدة العائلية تجمعهم، هذا وجه من وجوه الحب عند أبي. حاولت أن أتفهمها وأستوعبها جيدًا، لكيلا يساورني امتعاض من عاطفته القاطعة، أما الليلة، فلم ينادني أحدًا، ولن تقطع نومي التوصيات والأخبار، ولكن أيضًا لم يستقر نومي من شدة الهدوء الذي نزل على الجدران والغرف ليلًا ونهارًا، لأشرد بعيوني أناجي الأعماق:
هجمت عليّ قواعد البيتِ
تجري وتجري خلفها الذكرى
من شيّد الحلم؟
وأهدى أنسجتي للأرض؟
تمشي رويدًا
رويدًا
ينمو الربيع
والفصول تسري تباعًا
والسنون رفيقة
يقترب عقرب الثالثة والنصف صباحًا، لأجد إخوتي يوقظ بعضهم بعضًا، بعثت أختي رسالة هاتفية تسأل إن كنت مستيقظة؟ لم أكن أقوى على حمل جسدي من الفراش، لقد نمت قبل عشرين دقيقة، فلو لم أذهب ستفتقدني روحه، وتظن أني انشغلت بالنوم عن زيارتها بمجرد مرور الأسبوع الأول، فاتصلت على أختي:
سألبس وأخرج، كوني عند الباب.
حينها كنت أسمع صوت خطوات مُنذر وزوجته نازلَيْن من سلَّم الدور الأول، جميعنا قاصدون طريق المقبرة، انطلقنا سريعًا، الهواء هادئ وعليل، والنور للتو يحرك ستائره، لم أفكر يومًا ما في عقد علاقة وثيقة مع هذا المكان الموحش، والأغرب أنه لم يعد موحشًا كالسابق، ربما لأننا دسسنا فيه بعض عظامنا! من الطبيعي أن يشعر الأبناء بالأمان لوجود آبائهم في المكان، لكنهم اليوم ليسوا آباء طبيعيين، أصبحوا مواد مخبأة في التراب، لا ندري هل تحللت كليًا أم لا زالت قيد ذلك!
وصلنا إلى المقبرة، أمدُّ بصري نحو هذه القبور المُسندة والحمام يرفرف حولها في جماعات، أناجي نفسي: لماذا نحن هنا؟ لزيارة مَنْ؟ الجسد أم الروح؟ هل الروح غادرت ولم يبقَ سوى قليل من المادة عديمة الاستشعار؟ لا أعلم! إنها فكرة شائكة لجميع البشر. أم أن وقوفي على قبر والدي كوقوف السوَّاح على مراقد العظماء الذين حفظهم التاريخ؟ إنه بالنسبة لي عظيم، فهو من أهداني للوجود، وهل هناك أعظم من هذا الفعل؟
أشعر بإنهاك وفتور في كل مفاصلي، ما زالت روحي متخدرة من هول الصدمة.
جلس بعضنا على مقاعد الوقف لبعض الموتى، والبقية افترشوا الأرض، فشكَّلنا حلقة حول القبر بين قارئ للقرآن، وداعٍ وداعية، وباكٍ وباكية، هكذا تتوقف قدرة الإنسان على الفعل فجأة، فيصير أهلُه ومحبوه هم وسائله المتبقية للقيام بأفعال الخير والدعاء المستمر، لعل ذلك يستدرك له شيئًا، ويساعده في اجتياز معادلة الجزاء على العمل.
وبعد ما يُقارب الساعتين والنصف، بدأت الشمس تحتضن السماء وتُسخنها، فقال مُنذر:
إني عائد للبيت.
توزَّعنا في السيارات، ركبت مع أختي سُهى، وبصمتٍ أسندتُ ظهري مائلًا على النافذة المفتوحة، كان الهواء لطيفًا، هزّ ذاكرتي إلى الوراء، أيام أبي الأخيرة، لقد تغيّرت فيه أشياء كثيرة، أحاديثه الأخيرة مختلفة جدًا، الأب الذي يتلذذ بالطعام أصبح بالكاد يأكل طبقًا مختصرًا دون رغبة، أما همهماته الموجعة لنا، صارت تدفعنا للبحث عن طرق لإسعاده فيما بقي له من العمر، فقد صار يردد كثيرًا:
«لقد ملَّ الإنسان من هذه الحياة».
صرت أتأمل عبارته:
هل أقول يومًا كما قال والدي «مللت من الحياة؟» إنه شعور مرعب أن تملَّ من الحياة وتريد تغييرها، فما هي الحياة؟ جسدك؟ دقات قلبك؟ أنفاسك؟ عملك؟ طموحك؟ أم علاقاتك بالناس؟ هل مللتَ منهم جميعًا؟ حسنًا؛ ما هو سر ملل الإنسان من الحياة؟ خلوها من المعنى أم انجذابه إلى معنى في عالم آخر لم يصله بعد؟ سؤال المعنى صعب في تنظيره وتطبيقه، خاصة إذا ارتبط بالمعنى الوجودي للإنسان حيث الموت والحياة، فهل الموت هو خروج الروح أم شيء آخر؟ ومتى يحدث هذا؟ عندما نتذكر أفعالَ وأقوالَ الراحلين في أيامهم الأخيرة نشعر أنها ممارسات توديع! أيعقل أن الروح تشعر بالسجن بداخل الجسد بعد أن حملها طيلة هذه السنين، واقتراب الوقت للتحرر؟!
أكاد أُجّن!
وصلنا، توقفت السيارة عند البيت، يكاد رأسي ينفجر، أمَّا عيوني فما زالت توجعني بشدة.
إن الحقيقة أصعب من أن نُدركها بقوانا القاصرة والضعيفة، وفي كل الأحوال، لا يمكن أن نحيا ثم نموت دون أن يُدَوَّنَ وجودُنا في وثائق الإنسان الذي مرّ بعالم الزمن، فمن سيحفظ هويتنا المادية لينقلها إلى العالم الآخر؟ هل سنعرف أنانا عندما تذوب عظامنا ويأكلها التراب؟ وكيف ستبقى هذه الروح إلى أن تحين لحظة قيامة الجسد من جديد؟
شيلفر:
إن استبعاد الحياة الآخرة باعتبارها أمرًا مستحيلًا هي حالة ضعيفة فلسفياً.
مخرج:
هجم الصدى
محمولًا بأجنحة السؤال
لا همس يُؤنسنا
لا قانون إنسان
رقد البشري
على التراب؛ مؤبد
والروح خالدة
حيث الحقيقة
** **
- رجاء البو علي