«الجزيرة الثقافية» - محمد هليل الرويلي:
المرسم أو المعتزل إن جاز التعبير الذي ينشده الناقد التشكيلي (جلال الطالب) بين الفينة والأخرى، هو مجرد مقدمة لحالة أعمق وأبعد من واقع حياته أو مساحة مرسمه، فغايته المنشودة هنا أن يتجرد من ذاته وجسده، ويكون حالة استثنائية فكرية ليرتقي لمرحلة اللا وعي بالوعي، فيجتاز بها كل الحدود المنطقية والحسابات الملموسة، فتكون جدران مرسمه فضاءات لا متناهية وأرضها كغيمة يمتطيها ليحلق بأجنحة الألوان، فترتسم وراءها خيوطا من الزمن، تكون فاصلة بين الأرض السماء.. استضافته «الثقافية» بمناسبة افتتاح مرسمه المنزلي بمدينة سكاكا في منطقة الجوف في هذا الحوار..
الجزيرة كونك فناناً تشكيلياً ولديك مؤلفات بالنقد كيف ترى لوحاتك بعين الناقد أم بعين الفنان؟
جلال الناقد هو ذلك الذي يتأمل اللوحة بخيَال لا متناهِ ويتحسس أفكارها بالجانبين الفكري والفني.
بينما جلال الفنان يُجسد باللوحة ما يراه بعينيه أو ما يُلامس مشاعره أو ما يحاكي أفكاره وهاجسي الفني هو تجسيد الأفكار وليس رسم الأشكال فالعلاقة بين جلال الناقد وجلال الفنان كالعلاقة الطردية والعكسية في الوقت ذاته.
الجزيرة تقول إنك تجسد الأفكار ولا يعنيك رسم الأشكال ما فلسفتك هنا؟
أنا لا أرسم لوحاتي لمجرد أنني قادر على مزج الألوان باللوحة.. أنا أجسد لوحاتي من عصف أفكاري وقناعاتي التي ترتكز على البُعد غير المرئي للعمل التشكيلي أي الباراسيكولوجيا الذي يرى أن اللوحة ليست جدار الطين أو شجرة النخيل أو رمال الصحراء والبعيّر هذا تسطيح لثقافة اللوحة تحت مفهوم الفلسفة البراغماتية النفعية الرأسمالية لتغدو اللوحة شكلاً من أشكال تجميل الجدران وحسب اللوحة بمفهومي تحاكي هموم الإنسان أكانت عاطفية أو فكرية أو حتى قضاياه المجتمعية وما تختزله من شعور واستشعار وأحاسيسُ محفزة للأذهان ومتجاوزة للأزمان.
ومثالي على ذلك لوحة «عازف الريح» وأجسد بها فكرة أن الموسيقى لم تأت من العدم هي جزء من الطبيعية التي نحن جزءٌ منها فلما تحريمها.
الجزيرة استنتج من حديثك أن اللوحة لا بد أن تحاكي فكر الإنسان وهمومه وهذا الاستنتاج يذهب بي إلى سؤال هل نحن كمتابعين ومهتمين باللوحة التشكيلية بحاجة إلى فنان يشعر بنا من خلال لوحاته أو بحاجة إلى فنان نشعر به من خلال لوحاته؟
بحق نحن كبشر بحاجة إلى فنان نشعر به ويشعر بنا من خلال لوحاته ولا يمكن بشكل أو بآخر فصل الفنان عن محيطة الاجتماعي فالفنان بالأصل هو إنسان كأي إنسان يشعر بالآخرين ويفكر ويحزن ويفرح فإذا كانت اللوحة تجسد أفكار الفنان ومشاعره وأحاسيسه فقطعاً أن ذات الأفكار والمشاعر والأحاسيس نجدها لدى أناسٍ آخرين وبالتالي الاستشعار والشعور متبادل هنا بين اللوحة والمتلقي فيتحرك شعور الانتماء لهذه اللوحة أو تلك فيقتنون أولئك الناس لوحات الفنان التي تحاكي قضاياهم وشعورهم كما هي قضاياه وشعوره..
الجزيرة يبدو لي أن ثمة رسائل بلوحاتك تود أن توصلها للمتلقي يا ترى ما تلك الرسائل؟
هذا السؤال يحتاج إلى إجابة بحجم هاجس وفكر الفنان اللا متناهِ حيث الرسائل بلوحاته ليس لها حدود كما هو خياله لكنني سأختزل كلماتي لكيلا نتوه بانحصار كلمات الحوار حول بحثٍ عملت عليه فنياً وفكرياً ألا وهو تقسيم الفن التشكيلي بمسميات متعددة وكأن تلك المسميات ذات مسارات مستقلة ومنفصلة عن بعضها البعض الفنون الكلاسيكية والفنون الحديثة وفنون ما بعد الحداثة وفنون ما بعد بعد الحداثة فحين نعود بالتاريخ إلى فنون ما بعد الحداثة، نجدها ظهرت في خمسينيات القرن الماضي، السواد الأعظم من النقاد الغربيين يرون أنها أحدثت ثورة وتمرداً على الفنون الحديثة، من الانطباعية والتكعيبية والسريالية وغيرها، فهي بحد زعمهم ولادة لفنون جديدة سحقت ما قبلها من فنون الحديثة، في حين نعتها البعض أنها من المستهلكات الفنية، التي امتطاها المتسلقون على الفن، فوجدوا بها الملاذ الخصب لإخفاء انبعاجاتهم الفنية.
ولا أرى أنها أحدثت ثورة فعلية في عالم الفن، بقدر اختزالها للفكرة والمضمون وتناسيها الشكل الجمالي، ولو طبقنا معاييرنا النقدية من الجانبين الفكري والفني، لوجدنا أن فن الأساطير بالحضارات القديمة تنطبق عليها معايير الفنون الحديثة لا سيما الرمزية منها والسريالية، فلم يكن مصطلح الفنون الحديثة أيضا وليد القرن التاسع عشر، بل كان منذ آلاف السنين، ومن هنا نعي أن تعدد المصطلحات دون أُسُس نرتكز عليها، تنتج إشكالية لدى البعض فيتمسكوا بالمصطلح كملاذ للهروب أمام تساؤلات الناقد.
وإن الفنون التشكيلية باختلاف مسمياتها ومراحلها، فهي تراكم فني وفق النسق الزمني وكل مرحلة هي تحديث update لما قبلها من الفنون ليس إلا.
الجزيرة بما أنك أتيت على ذكر النقاد نرى بالمشهد التشكيلي الخليجي والسعودي خصوصاً إنتاجاً مهولاً للفنانين والفنانات وبينما النقاد بالكاد لا يذكرون يا ترى ما الخلل؟
بقدر جمال هذا السؤال بقدر ما يحرقني حقيقته المرة صدقت استاذ محمد النقاد بالمشهد الخليجي بالكاد لا يذكرون والإشكالية هنا تكمن بالقائمين على المؤسسات والجمعيات التي تعنى بالفن التشكيلي لم يكن من أولوياتهم وجود نقاد يمتلكون الرؤية والأدوات ولا يسعون لتحفيز الفنانين الشباب ليصبحوا نقاداً بيد أن اللوائح لتلك الجمعيات تؤكد تبني النقاد من طباعة كتب وفتح المنصات المنبرية لهم لسببين الأول أن بعض القائمين على الجمعيات لا يرون في اللوحة كمنتج ثقافي يختزل الفكر والفلسفة وتقتصر نظرتهم على أن اللوحة فني صرف لتجمل المكان فقط وليتهم فعلوا والسبب الثاني وجود الناقد يريبهم لأن عمل الناقد لا يقتصر على نقد وتقييم اللوحة بل يتعداها إلى نقد عمل تلك الجمعيات وآليتها وأنشطتها التي لا تتوافق مع حاجة المشهد التشكيلي نقدياً وفكرياً وفنياً.