سالم بركات العرياني
بين أبي العلاء المعري، شاعر المعرة الفذ، وحكيمها الأوحد وآرثر شوبنهاور فيلسوف فرانكفورت الكبير وأحد المفكرين العالميين البارزين في الثقافة الكثير من أوجه الشبه وأواصر القربى، على تباعد الزمان واختلاف المكان وتباين الأصول والأقوام، وهما يتقاربان في اتجاه التفكير ولون المزاج وأسلوب الحياة وإن كان بينهما تفاوت بعيد في منهج البحث والقدرة مع ضبط النفس وكبح أهوائها، وكلاهما يلمح الكون بناظر المتسخط المتبرم، ويرى الأشياء في ظلام قاتم من التشاؤم والاكتئاب، وينتهي به الأمر إلى رفض الحياة رفضاً باتاً لاقترانها بالألم، وامتزاجها بالشر وإقفارها من المسرات، ويرى إيثار العدم المطلق والفناء التام مع الوجود والكينونة، وشوبنهاور لا يرى في الانتحار كبير بأس ويحاول تفنيد آراء من يعيبونه ويبشّر بالزهد ويدعو إلى مقاومة الرغبة في الحياة والتعلّق بها والحرص عليها وأبو العلاء يدعو إلى هذا المذهب، وقد عاش شوبنهاور كما عاش المعري أعزب من غير نسل ولا زواج، ولم يكن ينتظر من شوبنهاور الذي يقول عن الحياة (إنها جحيم تفوق جحيم دانتي) أن يقذف إلى هذه الجحيم المستعرة بأولاده وذراريه ليعانوا آلام الحياة ويقول (إذا لم يكن الشقاء هو غرض الحياة وغايتها فإني أستطيع أن أؤكد أن وجودنا في الحياة انأى شيء عن الغرض والقصد، لأنه من السخف أن نظن أن الحزن غير المحدود الذي يتغشى الدنيا ويغمر الحياة والذي ينشأ من شجون ورزايا متصلة أشد الاتصال بجوهر الحياة هو بلا غرض ومجرد حادث عرضي) وواضح من ذلك أن الشقاء عند شوبنهاور هو (غاية الحياة) وهدف الوجود وأبو العلاء يرى الشقاء من واجبات الحياة، وكلا الرجلين سيئ الظن بالطبيعة الإنسانية، شديد الازدراء لها، بارع في الكشف عن عيوبها ومساوئها، وإحصاء نقائصها ومثالبها.
في كتاب (شوبنهاور بين الفلسفة والأدب) نلمح هذه الموازنة بين الرجلين ولكننا نعترف أن شوبنهاور كان شديد المحافظة على حياته، لقد كان يحترس من اللصوص كثيراً، كما أنه لم يسلم ذقنه لموسى الحلاق وأما أبو العلاء المعري فقد ترك لنا إرثاً فكرياً وثقافياً غزيراً ورغم الشهرة التي حظي بها كلا الرجلين فقد كان كل منهما يؤسس لمدرسة التشاؤم والاكتئاب.
فيلسوف التشاؤم وباعث البوذية في الفلسفة الحديثة آرثر شوبنهاور كان إلى جانب أبي العلاء الذي تأثر إلى حد ما بالفلسفة اليونانية كما يخبرنا بذلك لويس عوض في دراساته عن أبي العلاء المعري ولكن هذا الشبه بين حكيم المعرة وفيلسوف فرانكفورت لم يكن وليد الصدفة فقد كان لسان حالهم (أنا أتألم، إذن أنا موجود).