د. صالح بن سعد اللحيدان
لستُ واجدًا أحدًا يهوى القراءة إلا ولديه نوع خاص من كتب/ التاريخ/ والآثار/ وكتب الروايات/ إلا القلة تلك التي تكتفي بما يُغني عن كثير من كتب التاريخ.
والذين هم يُقبلون على جمع ذلك النوع من الكتب هم أولئك الذين لا يلتفتون إلى صحة الخبر أو الرواية بل هم يُقبلون ويَقبلون كل مدون ولو أنهم أدركوا أن الذي بين أيديهم من خبر وقصة ورواية لم يقع من ذلك شيء لأسفوا على دهر مضى من عمرهم سبهللاً.
ومن نافلة القول فلعل كثيرًا من العلماء والمصنفين وأهل الثقافة قد نقل أو استشهد بشيء ما مما قرأه وهو غير صحيح ولم يتبع أصلًا وذلك أمر شائن جدًا لأن العقل السليم لا يمكنه أن يقبل إلا ما كان قد كان.
ولهذا نهض منذ عام 50 حتى 700 للهجرة علماء تتبعوا أسانيد الأخبار والروايات والوقائع فبينوا حقيقتها وهل ثبتت أم لم تثبت؟ وذلك عن طريق التتبع المتسلسل لحال من نقل وروى وأثبتوا بعد اطلاع مكثف وتتبع متطاول وتبع متأن قوي أن السند إذا كان فيه راو يكذب أو يتوهم أو يبالغ أو تشتبه عليه الأحوال أو هو صاحب بدعة يدعو إليها أو أنه قد تم تلقينه فإنهم لا يرون هذا من الثابت رواية أو خبرًا أو أثرًا أو واقعة ما.
وهذا النفر من كبار العلماء قد تخصصوا في علم الأسانيد والرواة والمتون حتى تم تصنيف كتب في هذا حماية لجناب الشريعة واحترامًا للعقل الحر النزيه.
فظهر كتاب (العلل الكبرى والصغرى) للترمذي، و(العلل) لابن المديني، و(العلل) لابن حنبل، و(الكمال في أسماء الرجال) لابن عدي، و(تهذيب الكمال) للمزي، و(العلل) للدارقطني، و(الجرح والتعديل) لابن أبي حاتم، (والمحدث الفاصل) للرامهرمزي، و(الكاشف) للذهبي، وبينت شيئًا كثيرًا في كتابي (ط 11): نقد آراء العلماء والمؤرخين ومروياتهم، من أجل ذلك سقطت المعادلة وترك العقلاء مثل (مروج الذهب) و(تاريخ مكة) للأزرقي، و(البيان والتبيين)، و(الأغاني)، و(خاص الخاص) وما دَوّنه بعض المتأخرين إلى اليوم إلا ما يكون من باب التعجب كيف تم التصنيف على أساس هش لا يقوم فهم يُطالعون ويضحكون كيف كانوا من قبل وكيف هم الآن.
العقل الفطري الكريم ليس يقبل ما لا أصل له لكن العاطفة قد تحتال وتنخر في جذور العقل حتى لعل قائلًا يقول ما لنا وما للسند وما لنا وما للأسانيد.
وما دخل هذا في التاريخ ورواية الآثار وهم يقينًا لا يدركون الكذب في الرواية والكذب في الخبر لعلهم لو أدركوا لتركوا ذلك فرارًا ولملؤوا رعبًا.
إذا لابد من العقل ولابد من الصحيح ولابد من بيان حال ما أقرأ وتقرأ... ليس العقل بقبل ما هب ودب، وليس يقبل التلفيق وإن كان بيضاء شحمة.
كلا لكن التهاون وحب المتعة وقضاء الوقت هكذا وضعف الشعور بالمسؤولية يجعل الإقبال على كل شيء ليس فيه شيء، وهذا ما خلخل العقل وأضعف الرؤية.
جرب أن تقرأ مثلًا (الأغاني) ثم اعرض خمس روايات فقط على قواعد الجرح والتعديل بعد الحصول على السند سوف تقرع (سن نادم).
ولست هنا حينما أتكلم عن نقد رأي ما أو نقد كتاب ما لست معنيًا بالمؤلف فقد تكون نيته جيدة لكن هذا حد علمه إنما جل شأني كله هو ما دونه وبثه وإلا فالمؤلف قد أقول قد يكون من الأخيار، وهذا ليس يعفيه من اللوم على كل حال.