د. إبراهيم بن محمد الشتوي
وقد جذبت الملاحقة العرب القدماء، فجاءت في كثير من أشعارهم التي يصفون فيها ملاحقة الحيوانات بعضها ببعض، ابتداء من شعر ما قبل الإسلام حين كان الشاعر يشبه ناقته ببقرة الوحش وقد أتبعها الصياد كلابه وهي تفر منها تارة وتتقيهم بقرنيها الحادين تارة أخرى، ثم تطور هذا النوع من الشعر إلى أن أصبح فناً قائماً بذاته يتفنن الشعراء به في أواخر العصر الأموي والعصر العباسي حين أصبح الخلفاء والأمراء مغرمين بالصيد، يجمعون آلاته، ويهتمون بأدواته، ويعدون له فاره العدد ثم يخرجون بكامل زينتهم ورفاهتهم إلى رحلاته، وكان فيها الشعراء يقيدون هذه الرحلات منذ البداية، وينعتون آلة الصيد وعدته سواء كانت هذه الآلة كلاباً أم صقوراً أم فهوداً؛ يصفون انطلاقتهم، وسرعة عدوهم، وحدة بصرهم، ثم انقضاضهم على فرائسهم.
هذا التطور الذي أصاب الصيد وما يقال فيه من شعر دفع الشعراء إلى البحث عن وسائل نصية تميز هذا الشعر عن سواه، فكان غالبه يأتي على البحور المجزوءة الخفيفة كالرجز و الهزج، والرمل والمتقارب، إضافة إلى استعمال الألفاظ الغريبة عند وصف الكلاب أو الفرائس أو الأدوات أو فعل «الملاحقة» نفسها عندما تفر الفريسة التي قد تكون أرنباً ثم يطردها الكلب المعلم على هذه الفعل، وسموا هذا النوع من الشعر بشعر «الطرد»، بفتح الراء.
عندما رجعت إلى التراث العربي قارئاً بعد انتهائي من رسالة الماجستير، كان الهاجس الذي يلح علي أن أحاول أن أبحث في ذلك التراث عن جماليات مغايرة لما درسناه من قبل، وقضايا تكون مجال الاهتمام وإعادة القول، وبعث الفضول بعيداً عما درسناه من قبل سواء عند الجرجاني أو السكاكي أو حتى في النحو العربي.
وكان الطرد من الموضوعات التي لفتت انتباهي منذ قراءتي عنها، ودفعني فيما بعد إلى الاطلاع على شعره بغية البحث عما يشبع ذلك الفضول ويزيده. وقد لفت انتباهي في الحقيقة أنني لم أجد شيئاً ذا بال سوى الذي ذكرته من قبل، فغالب القصائد أو المقطوعات تكاد تكون وصفاً مجرداً إما للأدوات أو للعدو (الركض) عدو الطريدة التي تريد النجاة وعدو السبع الذي يبغي صيدها، وكأنها على أحسن تقدير مقطع سينمائي يصور هذه العملية.
إلا أن ما يلفت الانتباه أن كلمة «الطرَد» بفتح الراء، مشتقة من الفعل اللازم «طرد» بكسر الراء، بخلاف الصيغة الأخرى للفعل (مفتوح الراء) الذي يكون فيها الفعل متعدياً، وهذا يعني أن بؤرة التركيز هنا على الفاعل دون المفعول به الذي أصلاً ليس موجوداً في ذهن المتحدث عند اشتقاق الفعل، وهو ما يعني بدوره أن المقصود بـ»الطرد» ليس عمليه الصيد نفسها بما في ذلك الحصول الفريسة وإنما هو الركض الذي يقوم به السبع وما يظهره من قوة ونشاط في الحصول على مبتغاه.
لكنني لم أجد شيئاً من الشعر يضفي معنى لهذه العملية؛ ما معنى أن يأتي شاعر ليصور كلباً وهو يجري مشتداً خلف أرنب، وما الجمال في ذلك الذي يجعل صاحب الصيد الأمير أو الخليفة يجعل الشعراء يقيدون هذا في شعرهم؟!
في معلقة امرئ القيس وصف الصيد -كما هو معروف-، لكن هذا الصيد جاء بصورة فنية بديعة في معرض حديثه عن سرعة فرسه وقوته:
فعادى عداء بين ثور ونعجة
دراكاً ولم ينضح بماء فيغسل
ثم ختم الحديث عن الطرد بخاتمة تتناسب مع المشهد الكلي في القصيدة الذي يمثل الحصان مركز الحديث فيه وغايته، ويبين الهدف من الصيد في نزهة برية:
وظل طهاة اللحم من بين منضج
صفيف شواء أو قدير معجل
ورحنا وراح الطرف (الحصان) ينفض رأسه
متى ما ترق العين فيه تسفل
وكذلك القول في الطرد في معلقة النابغة حين وصف المعركة بين بقرة الوحش وكلاب الصياد، إذ جعلها في معرض الحديث عن قوة ناقته وجسارتها على الأهول، واحتمالها الشدائد كهذه البقرة العفية التي تنابز هذين الكلبين بقرنيها الحادين، فقتلت أحدهما ولاذ الآخر بالفرار:
لما رأى واشق (الكلب) إقعاص صاحبه
ولا سبيل إلى عقل ولا قود
قالت له النفس إني لا أرى طمعاً
وأن مولاك لم يسلم ولم يصد
في هذين الشاهدين يضعان «الطرد» داخل سياق نصي متكامل؛ الأول ضمن رحلة برية جاء الصيد نتيجة حاجة المتنزهين للأكل حين وجب وقته، والآخر ضمن رحلته إلى الممدوح (النعمان بن المنذر)، وهو يصف راحلته التي وضع رحله عليها، ويشبهها في مواجهة مصاعبها بهذه البقرة في مواجهة كلاب الصياد، وهذا ما يمنح هذا الفعل «الطرد» معنى خارج عملية الملاحقة الصرفة ويكسبه قيمة فنية.