د.سهام صالح العبودي
يقول ريجيس دوبري في كتابه (حياة الصورة وموتها): «إنَّ كلمتي Magie (سحر) و Image (صورة) تتكوَّنان من الحروف نفسها ويالها من عدالة».
لا تنفكُّ الصورة مؤثِّرة منذ التفكير البدئي الذي يعتقد ارتباط الصورة بقوى سحريَّة خارقة، حتى هذا العصر الذي غدا مسحورًا بالصورة والتصوير؛ إذ تلتصق أجهزة الهاتف المحمول بالناس كما لو أنَّها كفٌّ ثالثة تشارك الإنسان ملامسة كلِّ شيء، والانفعال به، ومن منَّا لم يستغرقه وقتٌ كي يفكِّك سحرًا ألقته صورة ما عليه؟!
لا يمكننا تجاهل تدفُّق الصور غير المتناهي، ويبدو أحيانًا أنَّ هذا التدفُّق لم يبق لنا ما نتخيَّله أو ما ننتظره! والأمر الأخطر أنَّه تدفُّق مؤثِّر يعيد تشكيل تفكيرنا، وخريطة قيمنا وأذواقنا، ويملؤنا بأفكار وحقائق وتصوُّرات مهما ادَّعينا القدرة على التماسك والرفض.
أفكِّر في العقل الذي جعل الصورة قريبة إلى هذا الحدِّ: انتقالِها اللحظيِّ وتفشِّيها، وأفكِّر أكثر في الخسارة التي يمكن أن تُقترف حين ندع هذا السحر يهرب منَّا دون استثماره، إن كان ثمَّة شيء معجز وخارق في العقل الذي صنع هذا الوسيط المرئي الساحر، فهناك إعجاز تالٍ يتحقَّق حين يتصرَّف عقلٌ آخر في هذا الممكن على النحو الصحيح، وحين يُستمطر هذا المعطى التقني الهائل التأثير؛ لتحقيق ما هو أكثر خصبًا، وحضورًا من مجرَّد صورة مرضية للعين، أو طارئة تزول بهجتها بزوالها.
ثمَّة حدسٌ واعٍ تُجاه تأثير الصورة وأدوارها وضرورتها لبلادنا وهي ماضية في تقديم نفسها إلى العالم، هناك إدراك بأنَّ مسايرة العالم جزء من أحقيَّة الوجود فيه، وفي عالم مسحور بالصورة، ومتأثِّر بها لا محالة يجب أن تقدِّمنا صورة مرويَّة بلسان محلِّي، وبصبغة خاصَّة تؤول بنا إلى تقديم هذا الخاصِّ المتفرِّد المختلف إلى عين العالم الجائعة إلى اكتشافنا.
إنَّ الصورة تعكس لحظة خاطفة، لكنَّها تستغرق الزمن كلَّه حين تخضع للتأمُّل والتأويل واستنطاق دلالتها، ومضمراتها الفكريَّة. وربما يسوغ – ونحن في حضرة الاحتفال بيومنا الوطني – أن نؤكِّد أنَّ استحضار التاريخ، وتوثيق فعل الحاضر، والتطلُّع إلى المستقبل: تلك القيم التي تؤكِّدها (الرؤية) ينبغي أن تكون مقروءة في فضاءات ووسائط عديدة، وأن ندرك أنَّ الصورة لها طاقة انتشار، وتدليل على الأفكار، وتصدير للقيم، وأنَّها (قوَّالة) أكثر ممَّا هو متوقَّع، وثمة شواهد كثيرة تثبِّت هذه الفكرة، وتقرِّر هذه الأدوار.
في مطلع هذا العام كانت الصورة التي ظهر فيها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان – مشاركًا في فعاليات المنتدى الاقتصادي العالمي – واحدة من أكثر الصور تأثيرًا وتداولًا. ولا ريب؛ فقد كانت تلك الصورة مثالًا مثاليًّا لصورة السياسة، وسياسة الصورة: الخيمة والصحراء والتقنية والفضاء، كلُّها ترميز جذريٌّ مدروس للهويَّة بدت فيه تلك الأبعاد في أظهر توازن يمكن أن تحقِّقه صورة تستحقُّ أن تكون رسالتنا لتغذية عين العالم وعقله.
نؤمن – قطعًا – أن مرحلة التحوُّلات هي مرحلة حيرة مشروعة، ومنطقة مأهولة بالأسئلة، ويمكن لصورة مثل هذه أن تصيب هذه الحيرة في مقتل، وأن تسكِّن الأسئلة الكثيرة التي صاحبت إرادة التحوُّل الوطني: ما الذي يجب أن يمضي وما الذي يجب أن يبقى؟ ما كنَّا؟ وما نكون؟ وما سنكون؟ أن تجيب صورة عن كلِّ هذه الأسئلة فما ذاك إلَّا انعكاس لصورة العقل الذي يستثمر سحر الصورة: رسالة بصريَّة مدروسة في معركة الوجود والتموضع اللائق بدولة قويَّة، وإدراك أنَّ جزءًا من المرئي المحرِّض يمكن أن يغدو ذريعة إلى غير المرئي: إلى البحث والتحقُّق، ولا أدلَّ على ذلك من الفضول الذي تخلَّق تجاه (العلا): قطعةِ التاريخ التي خرجت منه إلى الحاضر متهيِّئة لأن تكون صورة رمزيَّة، ومنعشة لذاكرة الحضارة التي انتسبت إلى الصحراء، صورة مغيِّرة ومحوِّلة منتمية إلى فضاء التحوُّل الكبير؛ كي تقول: إنَّنا نمتدُّ منها ولا ننفصل عنها، وإنَّنا نتطلَّع راسخين، صورة تقدِّمنا أمَّة متعددة الأبعاد، ومحقِّقة في كلِّ بعد هويَّة ووجودًا ذا سمة خاصَّة.
إنَّ حفرًا بصريًّا في طبقات تلك الصورة يقود حتمًا إلى إدراك أبعاد الزمن الثلاثة: (الماضي، والحاضر، والمستقبل)، وجود (صوريٌّ) رامز ومكثَّف يحقِّق التاريخ الممتدَّ البعيد في ماضيه، والانتماء للأصل: للخيمة التي لم يغادرها ساكنها روحيًّا، والتطلُّع حيث صورة الفضاء الأزرق المفتوح الذي يُنشد بدوره الجملة القائدة: «طموحنا عنان السماء»!
ولكم كان أبو حيَّان التوحيدي بعيدًا بنظرته في تقرير ما يحقِّق اكتمال التصور عن أمرٍ حين قال: «ليس الخبر كالمعايَنة، والمسموع والمبصَر كالأنثى للذكر؛ يَنزِع كلُّ واحد منهما إلى تمامه»، إنَّ الحقيقة تغدو خصبة ومتدفِّقة حين تُمنح الفرصة لأن تُسمع وتُرى و تُحسَّ.. أن تستثمرَ فضائل التقدُّم وأدواته لتقدِّم أ فضل ما لديها!