د. عبدالحق عزوزي
لا حديث اليوم إلا عن الأزمة غير المسبوقة بين باريس وواشنطن بعد إعلان أستراليا الخميس فسخ عقد ضخم أبرمته معها في 2016 لشراء غواصات تقليدية، واستبدالها بأخرى أمريكية عاملة بالدفع النووي، مفضلة عقد شراكة استراتيجية مع الولايات المتحدة وبريطانيا. وقد انتقدت فرنسا بحدة منذ البداية ما وصفه وزير خارجيتها جان إيف لودريان بـ»طعنة في الظهر» مشيرًا إلى أنه «غاضب جدا» ويشعر «بمرارة كبيرة». مضيفا «أقمنا علاقة مبنية على الثقة مع أستراليا، وهذه الثقة تعرضت للخيانة». وكان لودريان هو الذي توصل إلى هذا العقد مع حكومة كانبيرا عندما كان وزيراً للدفاع. من جهتها، اعتبرت وزيرة الجيوش الفرنسية فلورانس بارلي» أن فسخ أستراليا العقد هو قرار «خطير» على صعيد السياسة الدولية ويشكل «نبأ سيئاً جداً بالنسبة لاحترام الكلمة المعطاة».
وانتقد الوزيران الفرنسيان بشكل صريح أيضا الرئيس الأمريكي الذي اتهماه بسحق حلفائه. وصرح لودريان ههنا بأن «هذا القرار الأحادي والمفاجئ وغير المتوقع يشبه كثيراً ما كان يفعله السيد ترامب». كما قال المسؤول الفرنسي «تبلغنا فجأة عبر تصريح للرئيس بايدن أن العقد المبرم بين فرنسا والأستراليين توقف، ثم إن الولايات المتحدة ستقترح عرضا نوويا على الأستراليين لا نعرف مضمونه». مؤكداً أن «ذلك غير مقبول بين الحلفاء (...) كنا نتحدث عن كل هذه الأمور مع الولايات المتحدة منذ وقت قصير وجاء هذا الانفصال. إنه أمر لا يحتمل»
واستدعت فرنسا سفيريها في كانبيرا وواشنطن للتشاور، وهو عمل غير مسبوق في التاريخ الدبلوماسي بين فرنسا والبلدين، وتلح فرنسا كل يوم تقريبا من خلال تصريحات مسؤوليها إلى «وجود أزمة خطيرة» وإلى «كذب (...) وازدواجية (...) وتقويض كبير للثقة» و»ازدراء» من جانب حلفاء فرنسا.
وقد أدى هذا القرار إلى توتر العلاقات بين فرنسا والولايات المتحدة، في حين كان يُعتقد أن الرئيس بايدن يسعى إلى تعزيز العلاقات بين الحلفاء بعدما سادها الاضطراب طوال أربع سنوات في عهد ترامب.
كما أن هاته الأزمة ستؤثر على تحديد المفهوم الاستراتيجي الجديد لحلف شمال الأطلسي، والقمة المقبلة للحلف في مدريد ستفضي إلى مفهوم استراتيجي جديد؛ فما جرى للتو سيؤثر على هذا التحديد؛ ولكن شريطة أن تنجح أوروبا في أن يكون لها بوصلتها الاستراتيجية، وسيكون ذلك تحت مسؤولية فرنسا في النصف الاول من 2022»، عندما ستترأس فرنسا الاتحاد الأوروبي اعتبارا من الأول من كانون الثاني/ يناير المقبل.
كما أن فرنسا تنطلق من قناعة أنه بعد الانسحاب المتسرع للأمريكيين من أفغانستان، من دون التشاور مع الحلفاء، وبعد ملف الغواصات، فإذا أراد الأوروبيون أن يبقوا حاضرين في التاريخ فعليهم أن يتوحدوا ويدافعوا معاً عن مصالحهم، عندها سيكون مصيرهم مختلفاً تماماً.
ثم إن السياسة الخارجية الأمريكية الجديدة القائمة على ردع الصين أولاً، والخشية من الصين من طرفها ومن طرف حلفائها هي القوة المحركة للإنفاق الدفاعي الإقليمي.. وقد زادت وتيرة التجارب الصاروخية والإعلان عن صفقات شراء أسلحة هذا الأسبوع من درجة التوتر في منطقة المحيط الهادئ في ظل تصاعد الصراع بين القوى العظمى في هذه المنطقة من العالم. وشراء أستراليا لعدد من الغواصات الأمريكية العاملة بالطاقة النووية وكذلك صواريخ كروز وتوما هوك وتشكيل حلف دفاعي مع واشنطن ولندن، أتى ليفاقم من الوضع ويدفع باتجاه سباق تسلح إقليمي لا مثيل له في لعبة تجاذب القوى بين الصين وحلفائها والولايات المتحدة وحلفائها.
وتكفي الإشارة إلى أنه في السنة الماضية أنفقت منطقتا آسيا وأوقيانيا أكثر من تريليون دولار أمريكي على جيوشها، بحسب أرقام «معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام». وقالت المسؤولة في المعهد لوسي بيرد-سدورو «شاهدنا منحى تصاعديا خلال السنوات العشرين الماضية» معتبرة أن «آسيا هي فعلا المنطقة التي يلاحظ فيها المنحى التصاعدي أكثر» من أي مكان آخر. وتشير إلى ظروف مواتية لنمو اقتصادي سريع، يصب الأموال في صناديق الحكومة، وإلى تغير «مفاهيم التهديد» في المنطقة؛ وتمثل حصة الصين نصف المبالغ تلك، واستمر إنفاقها الدفاعي في الازدياد خلال 26 سنة خلت، ما حول جيشها (جيش التحرير الشعبي) إلى قوة قتالية حديثة. تنفق بكين حالياً على دفاعها نحو 252 مليار دولار سنوياً، بارتفاع بنسبة 76 بالمئة منذ 2011، ما يتيح لها إبراز قوتها في أنحاء المنطقة وتحدي التفوق الأمريكي بشكل مباشر.