عبد الرحمن المعمر
في مساء يوم السبت 20 محرم 1443هـ الموافق 28 أغسطس 2021م ودعت الطائف أحد أبنائها البررة ورجالها المكافحين الشرفاء والعاملين في حقل الشركات والكهرباء، ذلكم هو الأخ (أبو خالد) فيصل بن محمد حجري النمري رحمه الله. وقد أجَّلتُ الحديث عن الفقيد حتى أتأمل ولا أتعجل واستدعي الذكريات، وأقلب صفحات التاريخ.
ولد الأخ فيصل رحمه الله في (الهدا) حوالي عام 1356هـ - 1937م ونشأ كغيره من أبناء جيله نشأة أقرب إلى الشظف منها إلى الترف حيث كان كل أبناء ذلك الزمان يعيشون عيشة مباركة ويكدحون لطلب الرزق، لكن الله سبحانه وتعالى وفقه للدراسة والتعلم، حيث درس في المدرسة السعودية،ثم بدأ حياته الوظيفية في شركة كهرباء الطائف عام 1374هـ - 1954م وهي أول شركة كهرباء تؤسس في المملكة عام 1365هـ - 1945م، وكان أصحاب الامتياز إبراهيم الجفالي وإخوانه.
وتدرج في العمل في التحصيل والاشتراكات حتى وصل إلى مدير خدمات المشتركين، ثم مساعدًا للمدير ثم مديرًا لشركة كهرباء الطائف بعد الشيخ خليل قاضي والشيخ حسن كمال، وأظنه ثالث مدير لها، فأدار العمل إدارة حسنة بأمانة وإخلاص ودربة ومعرفة، وكان رجلًا ميسرًا لا معسرًا يسعى لمساعدة الناس وتيسير أمورهم ومراعاة أحوالهم، وهذا يعرفه ويقدره كل من تعامل مع شركة الكهرباء حينذاك.
يقول الشيخ إسماعيل قاضي وجيه الطائف ووجهها: إن منهج فيصل حجري في الإدارة يستحق أن يدرس، فقد كان مديرا بحق رغم أنه لم يدرس الإدارة أو يتعلم تعليمًا عاليًا، لكنه كان يقدم الخدمة لزبائن الشركة بأسهل وأيسر الطرق مع حفظ جميع حقوق الشركة، وهذه معادلة ليست يسيرة.
ومن خلال عمله في شركة الكهرباء اتصلت أسبابه بأسباب الأسرة الكريمة المباركة آل الجفالي وعلى رأسهم المرحوم الشيخ إبراهيم بن عبدالله الجفالي وأخوه الشيخ علي، فأصبح وكيلا لهم في الطائف، كما أشرف في فترة من الزمن على إدارة كهرباء مكة المكرمة، وقبل تقاعده عام 1410هـ أصبح مشرفا على الفروع في الإدارة العامة للمنطقة الغربية بعد دمج الشركات، كما تدرجت الحياة بالأخ فيصل وتطورت وشارك في خدمة مدينته الطائف والمجتمع من خلال اللجان والجمعيات الأهلية والخيرية، ومنها لجنة تقدير العقارات، ومجلس الأوقاف، وإصلاح ذات البين وغيرها، كما استمرت علاقته بآل الجفالي بعد وفاة الشيخ إبراهيم، فقد اصطفوه واختاروه لإيصال مبرَّاتهم وخيراتهم وصدقاتهم إلى الأسر المستورة والعائلات المبتورة التي ليس لها أحد بعد الله، فكان رحمه الله خير من يقوم بهذه الأعمال الخيرية لمعرفته بالأسر والأفراد الذين لا يسألون الناس إلحافا ويحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف.
والأخ فيصل رجل مفطور على حب الخير وصنع المعروف وإغاثة الملهوف، وعرف عنه الأمانة والصدق، كيف لا وهو تلميذ إبراهيم الجفالي الذي عرف بالإحسان والإتقان، كما أنه مجبول على حب الناس، وكان له ثلة من الأصدقاء (بشكة) في الشهداء القديمة في منزل قريب من وادي وج، ومن روَّادها وقتذاك الفنان عبدالله محمد والفنان مسفر القثامي، والأستاذ محمد بن رجاء العتيبي الذي كان يعمل مع الريس نايف العصيمي في الفرع المالي للجيش رحم الله الجميع، ثم انتقلت (البشكة) إلى منزل آخر في الحي نفسه قرب مسبح عكاظ، وأذكر من روَّادها فيصل بن درباس و خرشان الغامدي ومحمد على سبحي واللواء عبد الإله العوفي وكثيرون غيرهم، وبالمناسبة فهذه الحارة متعددة الأسماء فالبعض يسميها - أو أجزاء منها - الحفر، وآخرون حارة البخارية، وغيرهم الشهداء القديمة، وهي التي يحدها شارع حسان بن ثابت جنوبا والشارع الذي تقع عليه مكتبة المؤيد شمالا (وكان بعض العامة يطلقون عليه شارع سمير أميس نسبة إلى المطعم الذي كان موقعه على ناصية الشارع وواجهته على شارع الملك سعود الذي اشتهر بمجموعة من المطاعم الحديثة في الثمانينيات الهجرية - الستينيات الميلادية - ولا أعلم ماذا يسمى الآن) ويحد الحي من الغرب شارع الملك سعود ومن الشرق وادي وج، لكنه مؤخرا أضيف إلى الحي الملاصق له من الشمال حي الشرقية وهذا هو اسمه الرسمي الآن!
ويجدر بي في هذا المقام وهو مقام ذكرى وتذكر، أن أتذكر كذلك الشيخ إبراهيم الجفالي غفر الله له، وأكثر الناس اليوم لا يعرفون شيئا عن سيرته ومسيرته ونهجه ومنهجه، حيث قدم والده الشيخ عبدالله من عنيزة إلى الحجاز قبل العهد السعودي بسنين واستقر في مكة وأصبح مقصدا لأهل عنيزة الذين يفدون إلى الحجاز لطلب الرزق، وأذكر منهم الشيخ عبد الله الحسون والشيخ محمد بن ابراهيم السبيعي وغيرهم ونشأ الشيخ إبراهيم في مكة ودرس في مدارس الفلاح، وهو رحمه الله شخصية موسوعية، خبير بالحياة وعميق المعرفة بالناس، وهو مثقف وقارئ مطلع على كتب التاريخ الأنساب وجغرافيا الجزيرة العربية، يعرف الأسر والقبائل والأماكن والبلدان، ويظهر هذا في أحاديثه التي كنت أحضرها في مجلسه في قصره المعروف في حي السلامة بالطائف، ذلك القصر الذي يتوسط بستانا كثير الشجر رائج الثمر، وبه ردهات كبيرة ودكات كثيرة، كان له فيه مجلس يبتدئ من العصر إلى ما بعد العشاء يغشاه نفر من أصدقاء الشيخ وأحباؤه تدور فيه أحاديث ونقاشات وعلوم ومعارف، ولا يوجد به تلفزيون أو جرائد أو لاعبي بلوت، يتحدثون غالبا في التاريخ وسيرة الرجال العظماء أمثال الملك عبد العزيز ورجاله وسفرائه ووزرائه ورجالات دولته وغيرهم، ثم يتناولون العشاء ويتفرقون. كان رحمه الله يهتم بكل زائر ويشعر كل واحد أنه محل اهتمامه، وكان يودع الزائرين إلى باب الدار الخارجي وهذا من حسن خلقه ولطفه مع أن أكثر الزائرين هم بالنسبة له إما إخوة أو أبناء أصغر منه سناً، لكنها مكارم أخلاق النفوس الكبيرة الواثقة من نفسها والتي ليس عندها حساسية ولا عقد.
في ذمة الله خلان إذا ذكروا
هاجت لذكرهم في القلب أحزان
وقد حدثني الأخ فيصل حجري عن علاقته بالشيخ إبراهيم وأنه يعتبره أبا روحيًا له، وإعجابه بشخصيته وفكره وثقافته وكيف كان يعتبره مثلا أعلى ليس له فقط بل لغيره من صغار القوم وكبارهم، حتى أن بعض الوزراء إذا حضروا إلى الطائف مع الحكومة أثناء الصيف يحرصون على زيارة مجلسه ويستفيدون من الأفكار والمقترحات التي يطرحها والتي تدل على إحاطته وخبرته بالمجتمع وإدارة الحياة والأحياء والناس والاقتصاد، ولذلك تذكرني تلك المجالس بعبارة للدكتور غازي القصيبي - عن الوزير والراحل الكبير يوسف الشيراوي - عندما ألف كتابه (في رأيي المتواضع) كتب الإهداء: إلى الرجل الكبير يوسف الشيراوي الذي لا أعرف له رأيًا متواضعًا، وأنا كذلك لا أعرف لإبراهيم الجفالي رأيًا متواضعًا وكل من قابله يعرف هذا.
كما حدثني الصديق الشيخ محمد بن عبدالله بن عدوان أن الشيخ إبراهيم أثناء الصيف كان يزور والده معالي الشيخ عبدالله بن عدوان وزير المالية الأسبق في بيته بحي قروى بالطائف بشكل شبه يومي ويتناول معه قهوة الصباح المبكرة قبل أن يستيقظ أكثر الناس ويتداول هو وإياه الآراء في الاقتصاد والمجتمع والشئون العامة وما يدور فيها، والشيخ عبدالله أحد أعمدة الاقتصاد أيضا مثل الشيخ إبراهيم، وكيف أن الأخ محمد كان معجبا بالشيخ إبراهيم وآرائه وطروحاته وحرصه على هذا الواجب اليومي.
ومن الحسنات والمبرَّات الكثيرة والكبيرة للشيخ إبراهيم الجفالي، التي يعرف بعضها الناس وأكثرها لا يعرفونه، أنه اشترى أرض ملعب ساحة إسلام بمكة المكرمة وهي ساحة كبيرة كانت ملعبا لكرة القدم (استاد مكة الرياضي حينذاك) بأكثر من 30 مليون ريال وهو مبلغ كبير جدا وقتها وأقام عليها مباني ضخمة وجعلها وقفا لمدارس الفلاح وقد توفي رحمه الله بعد أشهر قليلة من ذلك التبرع عام 1403هـ، أسأل الله أن يجعل كل ما قدمه في موازين حسناته.
وإن مما يعزي النفس أن الشيخ إبراهيم قد ترك هذه السيرة الحسنة والآن ابنته الدكتورة فوزية بنت إبراهيم الجفالي تواصل هذا العمل الخيري في إقامة المبرَّات وإقالة العثرات والمسابقة إلى فعل الخيرات، وهكذا هذه الأسرة الكريمة ذرية بعضها من بعض اختصها الله بالفضل والله يؤتي فضله من يشاء.
ماذا أقول وماذا أدع وأنا في مقام التأبين والرثاء والذكرى والتذكر، تأبين ورثاء الصديق فيصل حجري وذكرى وتذكر الشيخ إبراهيم الجفالي، فالحديث عن الكبار مؤثر وكبير. وكنت أتمنى أن الذين كانوا ملتصقين بالشيخ إبراهيم الجفالي وقريبين منه وعايشوه وجايلوه وخالطوه في أكثر أطوار حياته كالشيخ بكر قاضي والشيخ فيصل حجري وغيرهما سجلوا شيئا من ذكرياتهم عن هذا الرجل الكبير.. ولما توفي الشيخ إبراهيم كنت خارج المملكة أعيش في تونس ولذلك لم أعلم عن وفاته إلا بعد أن رجعت فحزنت وتأثرت وتمنيت أنني كنت حاضرًا لأشارك في تأبينيه وكتابة شيء عنه، ومضت السنون حتى أتت هذه المناسبة الحزينة لتجعلني استرجع شيئا من الذكريات عن الشيخ إبراهيم الجفالي رفع الله درجته في عليين.
وفي أواخر حياته تعرض الأخ فيصل لعلل وأسقام وآلام جعلته قعيد الدار وحبيس الفراش، لكنه تقبل ذلك بصبر المؤمن واحتساب الموقن وإيمان الواثق بالله عز وجل، وفي آخر اتصال به وهو في المستشفى كان مستسلمًا لقضاء الله وقدره، صابرًا غير ساخط وهكذا المؤمن إذا ابتلي صبر وإذا أعطي شكر والحمد لله.
لقد أثارت وفاة الأخ فيصل -غفر الله له وأعلى منزلته في الجنان- مواجع وفواجع في نفسي ونفس كل محب للنماذج الكريمة المشرفة، وقد فرت من عيني دمعة أردت حبسها فما استطعت، لأنني أعجب بالرجال المكافحين الشرفاء الذين بنوا أنفسهم بأنفسهم ولم يعتمدوا إلا على الله عز وجل. وأتذكر في هذا المقام قول الشاعر:
من ذا يعيرك عينه تبكي بها
أرأيت عينا للبكاء تعار
وبعد فهذه زفرة حرى وكلمة عجلى أعزي بها نفسي وأعزي الأخ خالد بن فيصل حجري وكافة أفراد أسرة ومحبي الفقيد وعارفي فضله، ولله الأمر من قبل ومن بعد.