حسن اليمني
منذ السادس من آب عام 1945م بتلك القنبلة النووية أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية سيدة العالم، ومن ذلك التاريخ حتى اليوم مضت 76 عاماً ظهر خلالها ثلاثة أجيال في هذا العالم، فما هي طبيعة الجيل الرابع بطل المشهد اليوم؟.
الموضوع أوسع وأكبر من أن يحيطه مقال في صحيفة يومية يستهلك صفحاتها الخبر والإعلان، لذا من الأسهل التركيز على مكمن القوة التي أدارت العالم طيلة هذه العقود وهي الولايات المتحدة الامريكية، وبها ومنها نأخذ بالرسم التخيلي المبني على ماض وحاضر شيئاً من ملامح المستقبل المتوقع والمحتمل.
سعى ريتشارد نيكسون الرئيس الجمهوري لإنهاء حرب فيتنام وإقامة علاقات متكاملة مع الصين والغاية في هذا الامر سحب جزء من التقارب الصيني السوفييتي لصالح أمريكا واكمل المسار نائبه جيرالد فورد، ثم جاء الرئيس الديمقراطي جيمي كارتر ليهدئ المسار وتصحيحه وتدعيمه بالوجه الآخر للسياسة الأمريكية، عقبه الرئيس الجمهوري رونالد ريغان الذي كانت خطى سياسته في اتجاه ارهاق الاتحاد السوفييتي اقتصادياً بعد ان قويت العلاقة مع الصين اسرع واقوى فأعلن تحدي حرب النجوم في غمار سباق التسلح، كلا القوتين تملك من السلاح ما يدمر الاخر وليس في إضافة سلاح جديد ما يلغي خطورة الاخر او يزيده لكنه في مضمار القوة يصنع فارقا يستوجب اللحاق وتضييق الفجوة، عبثاً حاول الاتحاد السوفييتي ثني أمريكا عن هذا السباق الذي يعلم الروس في تعثرهم الاقتصادي انه سيزيد اقتصادهم سوءاً ان هم ركبوا مضمار هذا السباق، فكان الثمن التنازل عن المكتسبات لصالح التقارب الكافي مع الأمريكان لمراجعة سباق حرب النجوم أو تعطيله او على الأقل تهدئته، وحين تبدأ التنازلات يبدأ الهبوط والسقوط.
جاء الرئيس الجمهوري أيضاً جورج بوش الأب لينهي مسار هبوط الاتحاد السوفيتي وسقوطه عام 1991م وظهور روسيا الفيدرالية بعد تشذيب وتقليم الأظافر والأسنان في تلك الامبراطورية السوفيتية ابتداء بسور برلين وليس انتهاء بحرب البلقان وزحلقة دول أوروبا الشرقية نحو حلف النيتو ليصبح حلف وارسو إثر بعد عين، اربع سنوات تضاف لثماني سنوات ريغانية كانت كافية للخروج من السياسة الجمهورية الى الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون ليعالج اثار عملية نهاية الاتحاد السوفييتي وزيادة إنهاك ورثته بعلاقات أمتن واقوى مع الصين كعملية تنظيف وتعقيم للميدان بعد صخب الثور الجمهوري بأشبه ما يكون بالتبريد والتلطيف طوال ثماني سنوات يحل بعدها بوش آخر لإعادة جولة جديدة من النهج الجمهوري المتوارث، وفي ميدان تم تنظيفه وتعقيمه من قبل الديمقراطيين بدأ بوش الصغير مرحلة جديدة من بعثرة الساحة من جديد، فقد أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية القوة الأولى دون مزاحم أو منافس فكان الأمر مهيأ لتأكيد الهيمنة والسيطرة ومن لم يكن معنا فهو ضدنا ولا شيء آخر، ولم يكد العالم يتنفس الصعداء الا بعد ثماني سنوات عجاف من الويل والثبور وتعود الأرض تحت إدارة الحزب الديمقراطي برئاسة باراك أوباما، لم تكن روسيا والصين وحدهما اللذان نالا من عجرفة بوش الصغير، ولكن كان العالم الإسلامي ايضا يئن ويكاد يتفجر، حتى جاء أوباما كبلسم مخلوط بالشامبو ليزيل القشور من شعور الكراهية الإسلامية والعربية لأمريكا بوش الصغير، واستطاع فعلاً كسب الشعوب الإسلامية والعربية لفترة لكنه في المقابل كسب أيضا تضجر النظم الحاكمة في العالمين العربي والإسلامي وما إن تهاوت ثماني سنوات حتى ظهر الحزب الجمهوري مرة أخرى بوجه الرئيس دونالد ترامب الذي قلب السياسة رأس على عقب، فبدلاً من روسيا اتجه لمزاحمة الصين والعبث معها وبدلا من مراضاة العالم الإسلامي اسقط قضية فلسطين ورغب في محوها، وكل ذلك كان يتم بخطوات سريعة وقفزات في الهواء ما جعل بقاءه لأربع سنوات أخرى بمثابة كابوس على العالم المتخدر بنعومة الديمقراطيين على يد أوباما، سقط ترامب في انتخابات الإعادة، عاد الحزب الديمقراطي ونائب أوباما كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية على ركام ما خلفه ترامب من فوضى في العالم ليبدأ سياسته بامتصاص وتجفيف وإعادة ترتيب السياسة الأمريكية من جديد بالأسلوب خافت الصوت صاخب الحركة وتعود الـ(C I A) في صدارة المهد بدلاً من الـ(D I A) أو في الأقل إعادة التوازن بين جهازي المخابرات بعد ما كان سلفه ترامب اقصى الأولى لصالح الثانية وهو من الأساس ابن الأولى، واليوم تسعى الولايات المتحدة الامريكية لإعادة التموضع وترتيب الأولويات في مواجهة الصين وروسيا من جانب وتعطيل صعود الدول الساعية في الصعود للمنافسة وتغيير ميزان القوى في العالم.
مما تقدم من سطور نلاحظ وجهين سياسيين لاستراتيجية واحدة، واحدة ناعمة والأخرى خشنة وكلاهما تسير نحو غاية واحدة، حمار وفيل، الحمار يرفس والفيل يدمر، لكن العالم ليس ميتاً بل يتحرك وينشط في الفراغات التي تخلقها ألاعيب الحمار والفيل، فالصين بعلاقات مع أمريكا استطاعت أن تصعد اقتصادياً لتزيح المانيا واليابان وحتى أمريكا ذاتها وان كانا لازالا يتمرجحان لكنها أي الصين مدت خطاها نحو الشرق الأوسط وافريقيا وحتى شرق أوروبا، وروسيا استفادت من هياج الفيل نحو الصين وأصبحت في الشرق الأوسط وافريقيا وشرق البحر الأبيض المتوسط، في حين انهمكت دول طموحة في بناء ذاتها في ظل تلك الفراغات وأصبحت اليوم ذات علو تقني مدني وعسكري ونمو اقتصادي تجاوزت به كثيراً من دول غرب أوروبا ناهيك عن روسيا لتصبح ذات ثقل في المحفل الدولي وتجاذب إيجابي لها بين الأقوياء سواء كانت بصداقة او عداوة مع أمريكا، بل انه يوشك في هذا التداخل ان تجد النفع من العدو ومعه والضرر من الصديق ومعه والعكس صحيح أيضاً.
إذن العالم يتغير بدورة الأجيال وتبدل حالات العصر ومعطيات كل عقد من الزمان، والحق أحق أن يقال انه واذا كانت الولايات المتحدة الامريكية هي الحاكمة للعالم من منتصف القرن الماضي، فإن تلك الدول التي استغلت الفراغات بين الحمار والفيل قد حققت لنفسها اليوم مكانتها المتقدمة التي تجعلها في خانة الأرقام الصعبة، وتلك الدول التي تناسقت مع خطي الحمار والفيل وجدت نفسها بعد نهاية الصافرة لازالت على دكّة الاحتياط.