د.عبدالله بن موسى الطاير
سجلت الولايات المتحدة الأمريكية تاريخ رؤسائها منذ الاستقلال، وصنفتهم وفق منجزاتهم وإخفاقاتهم لتصنع قائمة بأسواء عشرة رؤساء في التاريخ الأمريكي حسب تقرير نشره موقع US News، وخلال القرن الماضي تربع الرئيس دونالد ترامب على رأس القائمة كأسوأ رئيس أمريكي في مئة عام، تلاه في السوء الرئيس وارن هاردنج الذي حكم لسنتين وعدة أشهر من مارس 1921 إلى أغسطس 1923 حيث توفي في 2 أغسطس 1923م، أما ثالث السيئين فكان هيربرت هووفر الذي حكم لمرة واحدة من مارس 1929 إلى مارس 1933م، والرؤساء الثلاثة الأسوأ كلهم من الحزب الجمهوري. يكون الحكم على الرؤساء من خلال أدائهم الداخلي، ولا علاقة له بالسياسات الخارجية، في الغالب. ولذلك فإن الرئيس الذي اعتبره الأمريكيون نقمة عليهم قد يكون نعمة على غيرهم.
المشهد السياسي الأمريكي على الرغم من تعقيداته إلا أنه يميل إلى عبور الحدود الفاصلة بين الأيديولوجيات، وهذا ما جعل التنوع الأمريكي بحد ذاته هوية على الرغم مما لحق به من تعصب في السنوات العشر الأخيرة. وهو في هذا التسامح يختلف عن بقية الأيديولوجيات التي تتنازع السياسة الأوربية حيث هناك عدم تماس بين الفرقاء ناهيك عن التقاطعات.
ويمكن تقسيم الأيديولوجيات التي تتنازع المشهد السياسي الأمريكي إلى أربعة كيانات كبيرة؛ داخل كل منها تنوعات وبينها تنازع أيضًا، هذه المكونات الرئيسة هي: الليبراتاريون، والاشتراكيون، والليبراليون والمحافظون. وتتوزع هذه الأطياف على الحزبين السياسيين بدرجات غاية في التفاوت.
وأهم ما تختلف حوله الأيديولوجيات السياسية الأمريكية الأربع هو حجم وتأثير الحكومة سواء على مستوى الولايات أو على المستوى الفيدرالي. الليبرتاريون، على سبيل المثال، لا يفضلون أي حكومة على الإطلاق، وهم في هذا المعتقد أتباع فلسفة سفسطائية لا يمكن تنزيلها على أرض الواقع، في حين أن الاشتراكيون يفضلون درجة عالية من التدخل الحكومي مقتدين بجذورهم الأيديولوجية حيث السلطة المطلقة، مع نكهة ديمقراطية أمريكية، وبين التطرف والتطرف المضاد يتموضع الطيف المعتدل الممثل بالليبراليين والمحافظين حيث يشكلان الوسط بين التطرفين. وبحسب الباحثين فإن أتباع الأيديولوجيات الأربع ما زالوا يفضلون الحكومات الديمقراطية التمثيلية.
وبتقريب أكثر للمتخيل فإن الرئيس جو بايدن تولى منصبه في وقت كان فيه الحزبان السياسيان الرئيسيان الجمهوري والديمقراطي يستقطبان نسبًا متقاربة من الأتباع؛ بمتوسط 30 % ديمقراطيين في عام 2020م، و 29 % جمهوريين و39 % مستقلين وفقًا لدراسة قام بها مركز جالوب. هذه الإحصاءات لا تغفل تفوق الديمقراطيين على الجمهوريين على المستوى الوطني في انتخابات 2020 بواقع 48 % إلى 43 %.
الانشطار الداخلي الذي يظهر في وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي بما فيه من خطر يهدد الوحدة الأمريكية (وبخاصة مع تفشي العنصرية البيضاء) يهوّن من فداحته وجود تيارات أيديولوجية متقاطعة، ففي حين أن معظم الجمهوريين من المحافظين، يتمتع الربع منهم بآراء معتدلة أو ليبرالية. وفي السياق ذاته يظهر الديمقراطيون المزيد من عدم التجانس، فالنصف منهم يرون أنفسهم معتدلين أو محافظين، والأغلبية الطفيفة تصنف نفسها ليبرالية. ويغلب الاعتدال على المستقلين الذين مثلوا نحو 39 % من الأمريكيين.
المكونان الشعبيان السائدان في الولايات المتحدة الأمريكية هما المحافظون والليبراليون، ولكل منهما قضاياه التي يؤمن بها ومنها ما يتعلق بسلطة الحكومة كما أسلفنا والإجهاض واقتناء السلاح، والضريبة، وزواج المثليين، والنوع البشري (الجندر). ويرى التيار المحافظ أن المهمة الرئيسية للحكومة هي حماية الحرية وتوفير الأمن، وأن تبقى فيما عدا ذلك بعيدة عن حياة الناس، لتسمح لهم بالتصرف على النحو الذي يرونه مناسبًا. ووفقًا للمحافظين فإن الحرية تتفوق على المساواة: ويجب على الحكومة تعزيز الأولى، بغض النظر عن مدى تأثير الحريات الموسعة على المساواة. أما الليبرالية الأمريكية فتعتقد أن الحكومة يجب أن تضمن المساواة بين مواطنيها، وعلى مدى تاريخ الحركة الليبرالية عملت على تعزيز الحقوق المدنية للأميركيين الأفارقة والأقليات الأخرى، من خلال توظيف أدوات الديموقراطية لاستخدام أذرع الدولة التشريعية والقضائية والتنفيذية لفرض الحقوق بغض النظر عن تأييد الأكثرية. وقد وصل الليبراليون في مسيرتهم إلى الدفع من أجل حقوق المثليين، والهجرة المفتوحة وهو ما يتعارض مع الأجندة المحافظة.
هذا السرد ليس درسًا في تفاعلات الداخل الأمريكي، ولكنه مؤشرات يستدل بها على عمق الانشغالات الداخلية التي تجعل السلطات الثلاث منهمكة في الداخل أكثر منها اهتمامًا بالسياسة الخارجية. وبناء على هذه المعطيات ليس من المعقول أن نتصور حضورًا مهمًا للحلفاء والأصدقاء في الحراك اليومي الأمريكي سوى بالقدر الذي يحقق مصلحة متعينة يفرضها الأمن القومي الأمريكي. أما توظيف جماعات الضغط، والإعلام، والعلاقات السياسية والاقتصادية والأمنية الثنائية، فهي وإن كانت مهمة، فإنها لا تمثل ثقلاً ذاتيًا يضعها على الأجندة اليومية لصناع القرار الأمريكي، إلا بقدر ما تمثله أو تدفعه من مخاطر على الداخل الأمريكي.