إبراهيم بن سعد الماجد
عندما يقول لك شاعر كبير، كتب في كل المناسبات، ورثى كل الأصدقاء والمعارف، وعند وفاة والدته لم يكتب بيتًا واحدًا، فضلًا عن قصيدة، فصدقه! فألم فقد الأم لا يماثله ألم، ينعقد اللسان، ويجف المداد!
وعندما يقدم الشاعر على رثاء أمه، فإنه يأتي بما لا يمكن أن يوصف إلا أنها مقطوعة تدمي القلب قبل أن تبكي العين.
وهذا أحد الشعراء الذين رثوا أمهاتهم، بأبيات خلدها التاريخ، لما تحمله من توجّع مؤلم، فضلًا عن غزارة المعنى، إنه الشاعر الكبير محمود سامي البارودي، الذي رثى والدته بقصيدة تحمل من المعاني الوجدانية ما لم يمكن أن يكون، لو لم يكن المفقود هي الأم، يقول في بعض أبياتها:
لَعَمْرِي لَقَدْ غَالَ الرَّدَى مَنْ أُحِبُّهُ..
وَكانَ بودي أنْ أموتَ وَيسلما
وَأيُّ حياةٍ بعدَ أمًّ فقدتها..
كَمَا يفْقِدُ الْمَرْءُ الزُّلاَلَ عَلَى الظَّما
تَوَلَّتْ، فَوَلَّى الصَّبْرُ عَنِّي، وَعَادَنِي..
غرامٌ عليها، شفَّ جسمي، وأسقما
وَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ ذُكْرَة ٌ تَبْعَثُ الأَسى..
وَطَيْفٌ يُوَافِيني إِذَا الطَّرْفُ هَوَّمَا
وَكانتْ لعيني قرةً، وَلمهجتي..
سروراً، فخابَ الطرفُ وَالقلبُ منهما
فَلَوْلاَ اعْتِقَادي بِالْقَضَاءِ وَحُكْمِهِ..
لقطعتُ نفسي لهفةً وَتندما
فيا خبراً شفّ الفؤادَ؛ فأوشكتْ..
سويدَاؤه أنْ تستحيلَ، فتسجما
إِلَيْكَ؛ فَقَدْ ثَلَّمْتَ عَرْشاً مُمنَّعاً..
وَفللتَ صمصاماً، وَذللتَ ضيغما
قبل ما يقارب ثلاثة عقود فقدت أمي، وكنت في أمس الحاجة إلى وجودها، فأنا الشاب المقبل على الحياة، والذي ما زال يرى أن أمه هي الملاذ الآمن والظلال الوارف، الذي يمكن أن يستظل به من هجير الحياة، بصروفها، وخطوبها، وأنا الشاب الذي ما زال يرى أنه لم يقم بأدنى وأبسط حقوقها، ولكن الله قدر وما لنا عن أقدار ربنا من مفر.
ما زلت أذكر توجعها من مرضها الذي كان مؤلمًا، ومع كل ذلك كانت تسأل وتطمئن على كل شيء!
أكتب اليوم عن (الأم) وأنا أشاطر أخي أستاذنا خالد المالك أحزانه في وفاة والدته -رحمها الله- وكأني به اليوم وقد شعر بما شعرت به، من يتم! فكما يقال: يبقى الرجل صغيرًا حتى يفقد أمه، ولا يماثل فقد الأم أي فقد.
المعري يرثي أمه واصفًا حاله عند رحيلها، وهو الكهل فيقول:
مضت وقد اكتهلت فخلت أني
رضيع ما بلغت مدى الفطام
فيا ركب المنون أما رسول
يبلغ روحها أرج السلام
سألت متى اللقاء? فقيل حتى
يقوم الهامدون من الرجام
فصرفني فغيرني زمان
سيعقبني بحذف وادّغام
كفاني ريّها من كل ريٍّ
إلى أن كدت أحسب في النعام
سقتك الغاديات فما جهام
أظل على محلك بالجهام
عند رحيل الأم، حتى ولو كان الرجل كهلًا فإنه لا بد أن ينتابه شعور اليتم، هذا الشعور اللا إرادي، الذي يؤكد على دور الأم الوجداني في حياة الأبناء، فلا سنوات العمر تغير من الحال شيئًا.
أبا بشار.. كنت بارًا هكذا نحسبك في حياة والدتك، واليوم هي في أمس الحاجة إلى برك وبر اخوانك وأخواتك، حيث انقطع عملها، إلا من ولد صالح يدعو لها، فبرها بعد رحيلها آكد وأهم، رزقكم الله برها، وصلة رحمها، وخليلاتها.
اللهم أنزل عليها وعلى جميع أمهاتنا وآبائنا رحمتك ورضوانك، وارفع درجاتهم في عليين.