حسن اليمني
للرقي والتحضر دلائل كثيرة متنوعة ومختلفة لكن ليس من بينها التقليد أو التلبّس بالمثل.
هناك حيوانات كثيرة استطاع الانسان تطويعها وتأليف طباعها مثال الحمار والكلب والقط وغيرها كثير، أظهرت قدرة كبيرة وسريعة على التعلم، وإذن فالتعلم والتعليم ليس تحضراً وإنما الأخذ بمضمون هذا العلم وامتثاله هو علامة التحضر، الحيوانات الأليفة التي تعيش معنا في منازلنا ومزارعنا وتنعم برفاهية الحياة البشرية لم تتحضر بعد تهجين طباعها وتوفير الأمن والسلامة والاهتمام، ولكنها ترقّت بفضل هذا الانسان لعيش أفضل ربما أفقدها طباعها الفطرية وأضعفها.
إن لبس البنطال المشقق هو بذات الوزن مع (اوكيه، شوقر دادي، واو فري نايس، هاي، هابي بريث دي)، وكثير كثير من الألفاظ الأجنبية التي دخلت لغة التخاطب بيننا، وان كانت هذه وتلك مجرد لمحات تمثل مضموناً للرسم الذي ألمح إليه ويتمظهر بمظهر المتحضر المتخلف الا ان زحام الأمثلة اكثر واغزر، وهي في مجملها تمثل حالة تخلف وتيه فكري وثقافي سواء للفرد أو المجتمع، أي نعم انتقال الكلمات والتصرفات بين الأمم امر طبيعي ومألوف منذ القدم ولا يعيب لكنه مؤثر إلى حد المرض، وكثير من الأمراض تبدأ خفيفة الاعراض شيئا فشيئا، تقوى وتتمكن لتصل مرحلة تُصعّب الشفاء وقد تنهك بفكر وعقل المريض لتسحق أصيله وتحوله إلى امعة وحينئذ لا يمكن وصف الحال بالتحضر والرقي حتى وإن بدا بشكل زاهٍ.
صراع الحضارات وهيمنة القوى على الضعيف والانتصار والهزيمة والتقدم والتخلف كلها ميادين هذا السلب الحلال والسطو المباح، لهذا يبدأ نهوض الأمم في أول خطواته بالارتداد للنفس والاعتزاز والافتخار بها، ويوازي هذه الخطوة في مرتبتها الأولى الانبهار والشعور بالدونية في النفس وتصغير حجمها إلى درجة قد تجعل الانسان يكره اصالته ويستحقرها، وأننا لنرى ذلك رأي العين ونعيشه واقعاً حياً دون لبس أو غشاوة، في عالم راهن اليوم نرى أن كل دولة تبحث عن نفسها وتسعى لتحرير إرادتها توصف بالتمرد والمروق، ونلاحظ العداء لكل خطواتها في تحقيق ذاتها سياسة عامة ظاهرة ليس من المنتصر أو المتسيّد فقط بل ومن اتباعه ومقلديه، هذه هي طبيعة صراع الحضارات.
إن التقدم يعني الاتجاه إلى الأمام بخطوة أرقى وأفضل وإن التحضر يعني الإنتاج والرفاه وكلاهما ضد التقليد والتبعية، فالتقليد والتبعية عملية انسلاخ من الكينونة الأصيلة إلى تلبّس وتصنّع مظهري في بدايته ثم يتحول إلى منسلخ كلياً في ذاتية غيره تابع لإرادته وبمعنى آخر عدو لنفسه أو أصالته، وهذا بالتأكيد ليس تقدماً ولا تحضراً وإن بدا أنه تناغم وانسجام مع الهالة المنتشرة والسائدة في المشهد المعاش، الأبقار المدرّة للبن والزبدة والقشطة تحظى برعاية الراعي، وكلما كبرت الشركة زادت رفاهية البقر لكنها تبقى بقراً تدر الغذاء للراعي الأصيل وهي ليست إلا مجرد آلة انتاج لا أكثر.
لا ترتقي الأمم أو تسود بالانتصار وانما بفكرة الارتقاء ذاتها وانتصارها، ولا يمكن لفكر يسعى للارتقاء ما لم يملك الاعتزاز بذاته أو هويته وأصالته وكما قيل «فاقد الشيء لا يعطيه» وحين تقلد أو تتبع الآخر في فكره فإنك تخرج من فكرك لفكره وتخرج من ذاتك لذاته لكنك أبداً لن تكون هو بل أنت تابعه، وبالتالي لن ترتقي ولن تتحضر أبداً.
إن واحداً من بين اهم الأسباب لتخلف الانسان العربي والمسلم هو الاستخفاف بلغته وربما احتقارها واحلال لغة اجنبية في التعلم والتخاطب واستحضارها في تدبيج الحضور بالمظهر المؤكد لهذا الاستخفاف أو الاحتقار، ويرادف ذلك التقليد الشكلي في المظهر باللبس أو الفعل السلوكي، وحين نعلم ذلك ثم ننظر إلى حالنا اليوم «فرد أو مجتمع أو شعب أو حتى أمة» لعلنا ندرك أن قيمة الأشياء في أصلها.