جميعنا حين عرفنا معنى كلمة «كتاب» في لغتنا الأم، عرفناه في الإدراك، في الفهم العقلي، لا أدري ماذا تسميه؛ لم نفهمه عن طريق ترجمة الكلمة إلى كلمة أخرى توصلنا لفهم المعنى، الأمر المتحقق في فهمنا لمفردات الكلمات في اللغات المكتسبة، فكلمة (Book) فهمناها حين ترجمناها إلى (كتاب) ومن ثم فهمنا معنى الكلمة من خلال إدراكنا العقلي السالف لكلمة «كتاب» وعلى الكلمات المعنوية فقس؛ (Sad) حين مرت أحدنا الكلمة للمرة الأولى ترجمها وحين عرف أن ترجمتها (حزن) وصله المعنى من خلال (الحزن) في حين أن كلمة (حزن) فهمنا دلالتها من خلال تعاطينا مع الحياة، من خلال ما أصابته الحياة من حزن في قلوبنا، الأمر ذاته في كلمة (love) التي فهمنا شعورها عن طريق كلمة (الحب) وهلما جرا.
هذا ما يجرني إلى فلسفة أعمق وأشد تعقيداً تطوف في رأسي ساعة بعد ساعة، ويثقل روحي حبسها في داخلي، وكلما رمت كتابتها في مقال غدت أمامي اللغة سراباً أشاهدها بصمت ولا أستطيع أن أمسك بها وأكتبها!
الفلسفة التي أحاول أن أقولها؛ إني أعتقد والحالة هذه أن الإنسان يفهم الحياة من خلال لغته، فإن عناصر الطبيعة -كأعم تصوير- هي واحدة في الحياة، وكل إنسان يفهمها من خلال لغته، فالشمس واحدة، لكن لا أحد يفهمها (شمسا) إلا العربي، أما الإنجليزي فيفهمها (Sun) وكذلك قس على القمر والبحر والشجر والتراب والنار والماء... إلخ، هذا كأعم تصوير مادي، الأمر ذاته يتدرج إلى الماديات الأخص فالأخص، ومن ثم يتدرج إلى الأشد تعقيداً وهو الفهم المعنوي.
أصل هنا إلى فلسفتي التي أطوف حولها وهي «فهم الحياة من خلال اللغة». اللغات ما بعد اللغة الأم هي لغات مكتسبة، هذا ما نعرفه، إلا أني أشير إلى أن اللغة الأم مكتسبة أيضاً، بيد أن الفيصل بينها وبينهن هو أنها مكتسبة فيما قبل الذاكرة، فلم يخرج إنسان من بطن أمه وهو يتكلم، لكنه اكتسب لغته الأم قبل الذاكرة فصارت المشي الذي يتحرك به، والنظر الذي يرى الحياة من خلاله، وهنا أقترب أكثر لما رمت أن أقوله؛ فالنظر من خلال اللغة لا يقتصر على المادي، بل بتجاوزه للنظر المعرفي/ المعنوي.
أظن أن اللغة الأم المكتسبة قبل الذاكرة محلها الروح.. لست أدري.. محلها يتجاوز جسمانية الإنسان، في حين أن اللغات المكتسبة بعدها محلها الذاكرة في الدماغ، وهذا الأمر -في اعتقادي- هو ما يجعل الإنسان يفهم الحياة من خلال لغته، فمعنى أن يفهمها من خلال لغته هو معنى أن يفهمها من خلال روحه؛ فكما أن الروح هي محرك الحياة في جسم الإنسان فإن لغته الأم هي محرك الفهم فيها، ذلك ألّا إنسان يعيش بدون لغة، فحتى الأفكار التي تتراود بينه وبين نفسه تكون أفكاراً مفهومة باللغة، ولا يوجد فهم غير اللغوي تتجلى به الأفكار التي في عقل الإنسان! تخيل معي: ما هذا الفهم غير اللغوي الذي يفكر به صوت عقلك؟
أظن وكل ما سلف أن قلته، وما دامت اللغة الأم مكتسبة قبل الذاكرة، وما دامت تبعاً لذلك محرك الفهم في الحياة، وما دام محلها خارج جسمانية الإنسان وبذلك تُحرك الإنسان كما يحرك أحدنا الدمى بالحبل؛ فأظن أن ذلك كله يؤيد أن الإنسان يفهم الحياة من خلال لغته الأم؛ لأن الإنسان لا يعيش بدون لغة، فهي ما تضخ البقاء في الحياة في الإنسان، فهي تنبع من داخله، على خلاف اللغات ما بعدها التي تكون لباساً خارجياً يرتديه، فهو بذلك كل معرفة معنوية فهمها بالحياة تكون امتداد جذورها في أساسيات ما قبل اكتساب الذاكرة، يعني أن هذه المعرفة تجلت في اللغة الأم التي اكتسبها قبل الذاكرة.
لا شك أن هنالك مصطلحات تعرف عليها أولاً باللغات الأخرى، بل قد لا يكون لها ترجمة للغته الأم؛ لأن مولدها الأساس هو تلك اللغات، ولا شك أن هناك تعاطي لغوي في اللغات الأخرى في سياقات حياتيه معينة ومختلفة؛ ليست كلها مجال حديثي، ولا تناقض الفكرة؛ لأن فهم الحياة ينشأ قبل الذاكرة، المنطقة التي تجلت بها اللغة الأم في روح الإنسان، ومن ثم فالتجارب الإنسانية جلها متكئة على الفهم الناشئ قبل الذاكرة والذي تجلى في اللغة الأم؛ هكذا في ظني أن الإنسان يفهم الحياة من خلال اللغة.
ربما لأجل ذلك تختلف حضارات الشعوب؛ ذلك أن كل شعب تشكلت حضارته من خلال أفراده، هؤلاء الأفراد الذين كل فرد بهم فهم الحياة من خلال لغته التي هي لغة شعبه، ومن ثم تشكلت حضارة هذا الشعب من نسيج أفراده المنوط فهمهم للحياة بلغتهم الذي اختلف بفهمها فهمهم للحياة فاختلفت تبعاً لذلك حضارتهم، واختلفت تبعاً لذلك الحاضرات.
أذكر أني نشرت مقالاً في فبراير عنوانه «أجنسة الفنون» وطرحت به أسئلة تأملية لا أمتلك إجاباتها، منها: هل للفنون جنسية وأعراق؟ وأيضاً: هل فن الإنسان منوط بعرقية ذهنه المؤجنس؟ أم مرتبط بذهنه الإنسان؟ أعتقد أن لمقالي هذا وجه من الإجابة!
لا أنسى فئة تعبث بفضولي دوماً، وهم أولئك الذين لهم أكثر من «لغة أم» تبعاً لاختلاف اللغة الأم لوالديهم، هل فهمهم للحياة مزدوجاً؟
** **
سراب الصبيح