توفّر القصص القصيرة للمؤلف حرية نقل رسالة أو تجربة موضوع دون عبء الالتزام بمهمة تستغرق وقتاً أطول في بضع أسطر أو صفحات، تنقل القصة القصيرة المعاني التي قد تتطلب عشرات الصفحات.
اختطّ الأديب محمد بن ربيع - الذي امتهن التعليم، وتخصص في الجغرافيا - نهجاً تنويرياً في نصوصه القصصية، استمدّه من تعليمه، وبيئته الخصبة بالحكايات المشوقة، والشخصيات التلقائية، والحوادث المدهشة. ومع تنوّع إنتاجه الغزير ما بين القصة القصيرة، والمسرحية، والمؤلفات في السير الشعبية، نراه يقف في صف معشوقته الأساس، القصة القصيرة، والتي أصدر فيها مجموعته الأولى بعنوان، المفازة، عام 1986.
ولشغفه بالسير الشعبية ومفردات الموروث الشعبي (وقد أصدر كتاباً فيها)، يلاحظ القارئ تناغم نصوص المؤلف مع البيئة والثقافة المصاحبة. يتجلّي ذلك من خلال الالتفات إلى المفردات المستخدمة في النصوص القصصية، مثل: بعير، يطحن، صخر، قمح، وهدة، ركيّة، مشعورة، مد، كادوس، بابور، رمية حصاة، حصاد، يهبهب.
يستخدم المؤلف أدوات من بيئة النص، للتعبير عن المشاهد وتصويرها بطريقة فوتوغرافية. في نص راقصو المفازة من مجموعة (ثديها الذي)، نقرأ فيه عبارات مثل:
المرتفعات والصخور من حولهم لم يبق منها إلا قليل من سوادها.
إذا مرّ عليهم كأنّه المناشير تنحت إقدامهم وسيقانهم.
أفئدتهم مثل بوصلة لا تقبل عن الشمال بديلاً.
توقفوا كمن يؤدي الصلاة على الميت الحاضر.
مثل هذا التصوير المشهدي العالي يعلق في ذهن القارئ، فوصف المكان أو المحيط بتفاصيل كافية يجعل القارئ يتخيل المشهد كاملاً.
نلاحظ ذلك في نص بابور سكّين:
وجه قد نسجه أبي من جرانيت جبال السراة.
نافخاً دخانه الأسود متكلمًا بأبجدية غريبة كنت على ثقة أنها تشكل جملاً مفيدة.
تتكيّف لغة السرد مع بيئات النصوص ومجريات السرد. في نص ثديها الذي من المجموعة القصصية التي تحمل ذات الاسم، جاءت اللغة رقيقة، حيث نلحظ بعضًا من الشاعرية، مثل:
المدى بساط من سنابل ذهبية عبارة تتناسب مع الحدث والفكرة وبطلة النص، وهي الأم الرحيمة بطفلها. أحياناً تكون اللغة واقعية، فتأسرنا بتعبيراتها الوصفية، في نص البهلوان من مجموعة (التنّور) مثلاً:
العجوز ثابتة مثل ساعة في بيت مهجور.
نزعت ضحكة من أسفل بطنها كأنها تنزع دلو ماء من قاع الركية.
وعبارة (غدا لسانها كقطعة خشب بين فكيها) من نص ثديها الذي؛ وعبارة حيّة مثل: (يلفني ظلام حالك مثل رداء ثقيل بلا مسام) في نص قناديل الشر من مجموعة (ثديها الذي).
بدافع من الحرص على رسم تفاصيل المشهد بدقة، تأتي بعض التعابير باللغة الدارجة، مثل عبارة (الدنيا رمضان) في نص ثديها الذي. في نص العجلة التي تدور من مجموعة (ثديها الذي)، ترد عبارة:
هذا المضّاغة إن كان جرحها غائرًا مفردة (المضّاغة) ليست دارجة في لغة السرد، وقد تربك القارئ من خلال استخدامها بمعناها العامي وصياغتها الملتبسة.
تكرار العبارات هي إحدى السمات البارزة في العديد من نصوص المؤلف. في نص قناديل الشر، نلاحظ أسلوب تكرار الكلمات من أجل تعزيز الشعور بما يعتمل في دواخل الشخصية الرئيسة. يغدو التكرار مقبولاً، نظراً إلى أن الراوي يخاطب القارئ مباشرة من خلال ضمير المتكلم:
يلفّني ظلام حالك، ظلام لا أنس فيه ولا وحشة. ظلام متغطرس يطمس عيني، يحجب عني حتى الظلام الأنيس. ظلام ما رأيت مثله.
يضغط على أطرافي يلملها مثل أطراف بعير. جاء بجسدي يحمله كبعير ميت.
هل مت ولم يخبرني أحد، كيف أموت ولا أعلم شيئاً عن موتي.
في نص البهلوان، تكرّر مشهد تطاير الماء من رأس الغراب:
ينتفض الغراب تتطاير من رأسه كرات الماء، انتفض الغراب وتطايرت من رأسه كرات الماء، انتفض الغراب وتطايرت من رأسه كرات الماء. تكررت العبارة 3 مرات، وغدت خاتمة للنص.
في نص العجلة التي تدور:
طاف بالعربة الأولى، ليطوف بالعربة الثانية، ليطوف بالعربة الثالثة انطلق مثل هبة ريح، انطلق وأنا أراقبه، كلّ من كان معنا كان يراقبه، انطلق حتى ابتلعته نقطة التلاشي، انطلق لكنه ما كاد أن يغيب، يطوف بها سيارة تلو أخرى.
في نص راقصو المفازة تكرّرت عبارة (مرمى حصاة). في نص بابور سكّين من مجموعة (الثوب الحنبصي)، نحا السرد نحو التكرار، حيث أسهب في فكرة حديث دخّان البابور، وهو أمرٌ قد يكون مستحباً في نص أطول، لكن في قصة قصيرة قد يبدو حشواً وتكرارًا.
تميّز العناوين سمة بارزة في نصوص القاص محمد بن ربيع، الذي يجيد ربط العنوان بخاتمة النص، مبقياً أثره غامضاً حتى لحظة التنوير. القفلة أو الخاتمة أو لحظة التنوير في النصوص تأتي وثيقة الارتباط بالعنوان، وهذه سمة جلية نلاحظها فيعدد من النصوص مثل نص العجلة التي تدور ونص ثديها الذي ونص الرصاصة من مجموعة (الثوب الحنبصي) ونص قناديل الشرّ. في نص راقصو المفازة، نكتشف أن الرقص هو إشارة إلى تعلّق الإنسان بمتع الحياة حتى في أحلك الظروف، فهي ما يساعده على المضي قدمًا. فمع كلّ العذاب والجهد الذي مرّ به المهاجرون، إلا أنّهم فكّروا في الرقص في حضرة الصخر والليل. ثم تأتي لحظة التنوير، ليكتشف القارئ أنّ الهياكل العظمية في هبوب الرياح تبدو كأجساد راقصة، محيلة القارئ إلى العنوان:
... مدّوا رقابهم ليروا عشرات الهياكل العظمية البشرية تتناثر على المنحدر من تحتهم، ران عليهم الصمت... تحدّرت دموعهم في خشوع ومهابة رغم أن الهياكل كانت مع كل هبة ريح تبدو مثل أجساد راقصة.
في هذا النص المتميز، سمي مكان المهجر بمدينة الطيبات، كناية عن الخيرات التي بها. وفي هذا تماثل مع الكثير من المبدعين الذين يميلون إلى إغفال ذكر أسماء الأماكن الحقيقية صراحة في سردهم، هرباً من إسقاط أحداث السرد عليها.
في نص العجلة التي تدور، نرى التناغم بين العنوان والقفلة:
... لم يبق في المكان إلا هو والحزن ودرّاجة ملقاة على الأرض لم تتوقف عجلتها الخلفية عن الدوران، لم تتوقف منذ بداية الحادثة حتى لحظاتها الأخيرة.
لكأن العجلة المستمرة في الدوران هي ذاتها الحياة التي لا تتوقف حتى لموت من كان حليفها الأكبر. قفلة النص عميقة، محفّزة على التفكر في مآلات النص ودلالاته، وفي الحياة التي تدور دون توقف لحادث جلل أو مصاب أليم.
نص الرصاصة بدوره يعتمد على تصوير مشهد إنساني فريد؛ مشهد طلاق في القرية. الطلاق الذي شبّهه العنوان بالرصاصة القاتلة. الطلاق، كالرصاصة، يقتل الحياة والأسرة والأبناء والزوجة، وحتى الزوج لا يسلم من جراحه. في المشهد المرسوم بدقة، تصدّرت القرية فيه، بدروبها ومبانيها، وأناسها الذين لا يخفى عليهم سرٌ أبداً لقرب المسافة بينهم. حافظ النص على دهشة القفلة حتى الكلمة الأخيرة، التي أضاءت عنوان النص، ومنحته عمقه.
بداية النص القصصي تحدّد الحالة المزاجية للنص ونبرته، والبداية القوية تمكّن المؤلف من ربط القارئ بالنص. نص البهلوان حمل عنواناً تقليدياً، فأصبح لزاماً على بداية النص أن تكون قوية لإبقاء القارئ قيد القراءة:
مثل الشرنقة تبدو وهي تلف جسمها برداء أبيض تنتظر مشيب غراب العراف فعودة ابنها البهلوان فشفاءها من السعال.
هذه الجملة الافتتاحية للنص، نابت عن العنوان في جذب انتباه القارئ إلى حكاية غرائبية مثيرة.
جاء السرد في نص البهلوان من خلال الراوي العليم، ممّا سمح للكاتب بالحرية في تعرية ماضي ساد فيه الدجل والشعوذة والظلام. الأمر ذاته في نص راقصو المفازة، حيث تمكّن الراوي العليم من تصوير المشاهد بقدرة عالية:
جمعهم الليل في حضرة بروز صخري.
صورة حيّة، جسدت الليل ككائن حيّ قادر على الترحيب بزواره مناصفة مع البروز الصخري.
يلجأ المؤلف إلى استخدام ضمير المتكلم في الكثير من نصوصه؛ وفي هذا دلالة على إرادة المؤلف خلق محادثة مباشرة بين الراوي وبين القراء، ناقلاً لهم أفكاره ومشاعره مباشرة، دون واسطة. مثل تلك النصوص تنشئ علاقة وثيقة بين الراوي، بطل النص، وبين القارئ. أحياناً، يكون الراوي بضمير المتكلم هو بطل القصة الذي يعبّر مباشرة عن أفكاره الداخلية للجمهور. نرى هذا في نص بابور سكّين ونص تكريم من مجموعة (ثديها الذي) ونص الخيط الرفيع من مجموعة (الفاتحون). في نص الفاتحون -قصة قصيرة جداً - من المجموعة التي تحمل اسمه، جاء السرد بضمير المتكلم الجمع (نحن):
سرنا وراءه تحت ظلال الأسنة، منّا من قضى نحبه ومنّا من ينزف على قارعة الطريق، حطمنا الأصنام جميعًا، أحلنا ركامها إلى تل كبير، صعد، فلمّا استوى على التل صرخ فينا والزبد يملأ شدقيه: الآن قعوا لي ساجدين.
عبر كلمات قليلة، رسم النص ملامح أحداث كبيرة وأشخاص، ومأساة وعقدة وخاتمة.
من ناحية أخرى، ولأن منظوره محدود، لا يستطيع الراوي بضمير المتكلم أن يشهد أو يفهم كلّ جوانب المواقف والأحداث، ومشاعر جميع الشخصيات. وبالتالي، سيترك المجال للقارئ لتخيّل تفاصيل أكثر حول الحبكة. في نص العجلة التي تدور، لأن النص بضمير المتكلم، لا يتمكّن القارئ من معرفة دواخل نفسية الصبي، وسبب تصرفاته؛ وهذه إحدى سلبيات هذا النوع من السرد، حيث ينقل لنا الأحداث من وجهة نظر واحدة فقط.
قليلاً ما يلجأ المؤلف إلى الفانتازيا في نصوصه، فكما ذكرنا، همّه الأكبر هو الاشتغال على الموروث الشعبي، ومفرداته، وحكاياته، فتكتسى نصوصه بالواقعية والهموم الإنسانية المشتركة والبيئة المحلية. أحد نصوص المؤلف التي تحلق في الفانتازيا هو نص الخيط الرفيع، قصة قصيرة جداً:
حلّق نص في الأعلى لكن نص في الأسفل كان أثقل، حاولت قطع الخيط الرفيع الذي يشدني إلى نص في الأسفل المكوّم عند قارعة الطريق. حاولت ثانية، فلم ينقطع.
نرى في النص على قصره اكتمال عناصر القصة؛ البطل، والمكان، والحدث، والعقدة، والخاتمة المفتوحة. دلالات النص عميقة، وكأنها تشير إلى شخص أحلامه أكبر منه. النصف الأعلى يرمز إلى العقل والتفكير الذي يعمل ويناضل لشد الجسد إلى الأعلى. في المقابل النصف الأسفل وهو الأقدام لم يستطع مواكبة العقل، فشدّه إلى الأسفل؛ في إشارة إلى أن العقل من دون عمل لا يكفي لتقدم الإنسان.
الرمزية في النص القصصي تجبر القارئ على إعمال الفكر في أبعاد النص، وقراءته مرات عدة، على أمل الخروج بتأويل يسمح له بفهم النص والإفادة منه. وهكذا كان نص البهلوان الذي لم يأت بمفتاح لسبب تسمية الابن بالبهلوان. وهناك النمل كرمز يوحي للقارئ بالسعي الدؤوب والعمل المنظم، وربما هذا ما قصده النص حول سعي البهلوان خلف النمل ودخوله جحرهم، سعياً وراء المادة:
نملة مرّت تحمل حبة قمح، سألت: كيف عثرتِ على حبة قمح في أرض محروقة؟ تساءلت ثم ضحكت. ضحكت لأن ابنها البهلوان دخل بيت النمل في رحلة مشؤومة لم تردّه إليها.
ليس على الكاتب أن يقول للقارئ كلّ شيء، لكن عليه أن يعطيه مفاتيح في النص تفتح له أبوابه المغلقة وتشرع آفاقه. حين تلقب الأم ابنها بالأفاق، في هذا إشارة إلى أن مسعى الابن في الدنيا لم يكن على طريق مستقيم:
جذبت عجوز الانتظار عصاها وتراجعت قليلاً وكأنما عادت من حفلة نوم، ضربت بعصاها الأرض وزمجرت: بهلوان أفّاق يدخل من ثقب صغير؟ ضحكت محبطة وسعلت، انتفض غراب العرّاف فتطايرت من رأسه كرات الماء في كل اتجاه.
من خلال السرد العجائبي، كأن النص يخبرنا أن الأم في انتظارها ابنًا غائبًا، ستبذل المستحيل، مثل انتظار مشيب غراب، وإنها لا يمكن أن تتقدم في السن، فقد توقف بها الزمن ساعة اختفاء الابن، وقلب الأم لا يعبأ أكان الابن صالحاً أم ضالاً، فهو الولد وكفى.
تنطلق نصوص المؤلف من البيئة المحلية، وتحمل الكثير من المعاني العميقة في طياتها؛ مثل نص تكريم الذي حمل رسالة مفادها أن التكريم لا بد أن يكون لمن يستحقه. المشهد في النص وإن بدا طريفاً، لكنّه يحمل معاني عميقة، ما يجعل القارئ يتفكر في دلالاتها. هنالك المكرِّم الذي يتمسّك بالدرع، وكأنه لا يود التفريط به لشخص لا يراه جديراً به. والمكرَّم في الوقت ذاته لم يتورّع عن وصف نفسه بالغرور:
ضاق الممر حتى لم يتسع لزهوي وغروري.
سرت إليه في خيلاء حصان لعب النزق بأعطافه.
سحبه للدرع يدلّ على تلهّفه له، وكان الأجدر الانتظار حتى يُسلّم له. عدم قدرة بطل النص على قراءة تعابير وجه المكرّم تدل على اشتغاله بنفسه مما شكل حاجزاً بينه وبين الناس وفهمهم:
... كان يمسك الدرع بقوة ولذلك سحبته بقوة أيضاً، مكّن أصابعه ومكّنت أصابعي، سحبت الدرع فتمسّك به أكثر، أسحب وأراقب أصابعه التي يبست على أطراف الدرع ووجهه الذي بدا لي مثل كتاب مغلق.
وكذلك نص العجلة التي تدور الذي يخبرنا أن الحياة تستمر في الجريان من دون توقف حتى لموت من كان حليفها الأكبر.
القصة القصيرة تمكّن القارئ من أن يتخيل في ذهنه الصور التي يرسمها الكاتب؛ وفي نصوص الأديب محمد بن ربيع، هذه الصور مفعمة بالحيوية، وألوان البيئة، وأطياف الموروث الشعبي. والنصوص التي تنطلق من المحلّية وتحتفل بها، تلقى قبولاً أكبر لدى القارئ المحلي والعالمي.
** **
- د. عبدالله الطيب