ها هي أول ليلة تمضي خامدة من الصوت والباب مُشرَّعٌ، وكلنا راقدون على وسادة الدموع، لم يسرقنا أحد، ولم تهجم علينا الطبيعة، فلا همس هنا إلا الهواء ولا شاهد عيان إلا أنا يا أبي، لقد اختل القانون وغابت فريضتنا وصار ضميرنا هو الآمر والناهي بين ليلة وضحاها!
سرتُ عائدة إلى غرفتي، وذاكرتي تخلع مشهدًا وتلبس آخر أشد، تمددت على الفراش مرة أخرى، وأغمضت عينيّ لأراه ماثلًا بين آباء يودَّعون بناتهم في بهو محطة السكك الحديدية، وهنّ متجهات للدراسة في العاصمة، كان بعضهم يكتفي بنزول ابنته من السيارة ليواصل مشواره، أما أبي فمن أولئك الذين يحملون الحقائب لبناتهن لحين يختم موظف التذاكر التذكرة، خطوة واحدة لأعبر منطقة المغادرين إلى الرياض، عندها يمدُّ لي حقيبتي من تحت الحاجز. قلت له ذات يوم:
- لا داعي لإيصالها إلى هنا، يكفي أن أنزل من السيارة، لتمضي في طريقك، الرحلة عادة تتطلب الانتظار بداخل الصالة.
- أتدرين؟ لو يسمحون لحملتها لكِ إلى بوابة القاطرة يا ابنتي، يكفي أنكِ تحملينها أسبوعيًا في رحلة دراسية وتعيشين لوحدك، لكنهم لا يسمحون.
ويعود في نهاية الأسبوع ينتظرني ليحملها مرة أخرى من ذات المنطقة من ناحية القادمين، نركب ونُغلق أبواب السيارة، يتحرك، يبتسم ويحكي لي كيف تجاوز السيارات بسرعة، ليصل قبل وصول رحلتي.
- أبي، لا داعي لذلك، حتى لو تأخرت عليّ، فصالات محطة السكك الحديدية تظل ممتلئة بالمسافرين.
- أعرف، لكن لا أريدكِ تنتظرين، فأنتِ تعودين متعبة من يوم دراسي طويل، ينتهي برحلة تهتز بجسمك لثلاث ساعات تقريبًا، لابد ألَّا تنتظري يا ابنتي.
في ذلك الحين كنت أشاهد كثيرًا من الآباء الأثرياء يكتفون بعاطفة باردة أو حيادية بلا لون، وقد ساورني هذا الشعور تحديدًا، عندما بكت دُنيا في محاضرة الاستماع والتحدث في يوم الأم العالمي قائلة:
- من الاعتيادي أن نصحوا صباحنا المدرسي، فنفاجأ بأن أبي وأمي قد سافرا منتصف الليل دون إخبار سابق!
ثم تردف:
- إن المربية هي التي تستقبلني عند العودة من الجامعة، وتجهز لنا الغداء وتسأل عنا.. المربية هي أمي!
وينفجر صوتها الباكي؛ لينزل على جدران القاعة كجليد يجمد أصوات الطالبات من الصدمة! دُنيا، الفتاة الجميلة والثرية؛ التي تسافر بمفردها وتتحدث الإنجليزية بطلاقة غير مسبوقة، يُحطم حديثها عن والديها وحياتها الشخصية حلم الأسرة الثرية في عيون زميلاتها، اللاتي لطالما غبطنَها بصمت على رفاهية قدرها! لقد بقيتُ طيلة اليوم أقارن بين عاطفة المخمليين تجاه أبنائهم وعاطفة آباء الطبقة الوسطى، فبينما أبي يحمل حقيبتي، تتصل أمي في أيام الامتحانات يوميًا ثلاث مرات؛ صباحًا لتوقظني للجامعة، وقبل دخول قاعة الامتحان؛ لأطلب منها أن تدعو لي، وبعد خروجي من القاعة؛ لتطمئن على ما قَّدمته من إجابات. لقد تعلمتُ في هذا اليوم أول درسٍ جامعي عظيم عن الآباء في طبقات المجتمع وأساليب حياتهم داخل جدران بيوتهم الكبيرة وقصورهم الفاخرة.
رحل والدي اليوم وترك لي كل هذه الأوراق لأعيد قراءتها، هكذا مرّ استيعابي لشخصية أبي عبر مراحل مُتدرجة، عرفت على أثرها أن قوة التأثير لا تقف عند حدود لحظة الحدث، بل تتأكد باستجلاب الشعور في زمن لاحق، وهذا ما تفعله بي ذاكرة الطفولة المتأرجحة بين كفتي والدي ووالدتي:
طفلة تظهر أمامي الآن، على موعدها المدرسي كل صباح، ممددة على السرير، نصف نائمة وأمها تجدل شعرها على اليمين والشمال، يقطع هذا الإغفاء صوت الأب الذي لا يسمح بالغياب لأي عذر، تقفز من الفراش تُبيّن أنها في حالة صحو وانتعاش كامل، لتتفادى انزعاجه الإجباري، هكذا تم القبض على الغياب المدرسي طيلة عامين من البكاء، لطفلة تذهب باكية وتعود فرحة.
منذ تلك السنين عرفت أن قسوة والدي الصباحية كانت لصالح مستقبلي، فالمدرسة تشهد تأخرًا اختياريًا لبعض الطالبات في الصف الأول الابتدائي، لفرط بكائهم اليومي مثلي، ولكن الفارق أن والديّ لم يفكرا في الاستسلام كبعض الأهالي، الذين ينقطع صبرهم خلال العام، فيوقفوا احضار بناتهم مؤقتًا، ليعيدوا التجربة في العام التالي، هنا تأكدت أن الغضب الصباحي المشدد من والديّ هو من أجبرني على دفع أقدامي والاستسلام لطريق المدرسة، هكذا لم يفتني يوم واحد برغم الدموع اليومية.
لقد مرّ الوقت وهرمت تضاريسه...
ها هي جدران البيت وزواياه وممرات تهويته شواهد على سيرورة الزمن وجريان العمر، شجرة التوت الأحمر المتألقة في حديقة بيتنا اجتُثت من جذوها بعدما أرست قواعدها في الأرض وأمطرت علينا من ثمرها اليانع ونحن أطفال،كنا نفرح عندما يهزها والدي فنجمع ثمرها ونغسله ونأكله، شجرة التوت صديقتنا العريقة، الكريمة بعطائها، الحنون بدفئها ما لبثت أن ظللتنا تحت عرشها.
كبرنا، تغيّرت ملامح الحياة، رصف والدي الحديقة، وأصبحت في عيوننا صغيرة، بعد أن احتضنت أحلامنا الطفولية، واحتوت ألعابنا، وحملت أمنياتنا على ظهرها، وشهدت سباقاتنا وجمعت دراجاتنا الهوائية. أنا وحامد؛ أطفال دون العاشرة، نلعب بطاقة عالية، ووالدنا يعبر بيننا مكررًا عبارته الشهيرة: «ما شبّ شاب إلا وشيّب شباب»، كُنا نسمعها على مدى مراحل حياته دون إحساس بمعناها، أما اليوم فقد غادرنا، ليؤكد لنا أن الإنسان ولو نال الحظوة بإكمال مراحله العمرية الثلاث، فلن يخطو بعدها سوى لحتمية العالم الآخر، ليدع مجالًا لبشرية جديدة تحتل الأرض.
مضت ثمانية أيام من تاريخ الوفاة، ولم يتبق لنا الكثير لنعود لحياتنا الاعتيادية.
إنها الليلة التاسعة أقضيها ممددة على السرير في غرفتي المُقابلة لحجرته، مُجددًا أطفئ الضوء، وأختار الظلمة، لعلها تساعدني على النظر إلى الزمن المجرد والنوم الهادئ، أسرُّ لنفسي:
هجم الظلام
والهواء قاعد يرقب الهجمات
لا انزاح من مرساه
ولم يطلب من زفيري حاجة
ما حاجة الأنفاس لو مات جليسها
يتبع ...
** **
- رجاء البوعلي