سديد الرَّأي، طويل الباع، ناصع العلم، صادق اللهجة، صريح العبارة، حلو الإشارة، واضح البيان، حسن المعشر، لطيف المؤانسة على علوِّ كعبه في العلم ورفعة الدَّرجة، وهو لا يترَّفع بهذا العلوِّ على مَن هو دونه في العلم والمرتبة، بل يلاطف ويجالس مَن يريد مجالسته، ويبادل من يلاطفه باللطف، ويحجِّر على من يلاغيه أو يعارضه بالحجَّة، ليس فعله هذا منه هوناً وهجنة، ولا ضعفاً ولا وكساً، يأنس به المعيد المبتدئ كما يسرُّ به الأستاذ الكبير المكتفي، وهذا من تواضع الكبار مع مَن دونهم.
لقد رأيت هذا في فضيلته لمَّا أن انتظمت عضواً في قسم النَّحو والصَّرف وفقه اللغة في كليَّة اللغة العربيَّة بجامعة الإمام محمَّد بن سعود الإسلاميَّة العام (1429هـ)، وكانت هيئة التَّدريس في القسم يجتمعون في استراحة القسم فيهم الأساتذة الكبار، وفيهم المشاركون، وفيهم المساعدون والمحاضرون والمعيدون يدور بينهم حديث الأدب، ودأب التَّوقير، ومن ضمنهم فضيلته؛ فيحدث ما ذكرتُ من لقاءات بين هذه الطَّبقات من أهل المراتب.
ومن سمت فضيلته لمَّا أن يدخل الاستراحة ولا يجد فيها سوى بعض المحاضرين أوالمعيدين لا ينكفئ عائداً في حافرته، بل يجلس لو لم يجد أحداً كذلك، فهو يجلس إلى مَن يجده في مجلس الاستراحة ولا يتبرَّم ويضجر بمجالسه، ولا يشعر مجالسه بعدم رغبته في محادثته إيَّاه، بل يلاطف من يكون فيها بالمزاح والطُّرفة الخفيفة، ويسأل المعيد عنه وعن رسالته وكذا المحاضر، وإن عنَّت مسألة ناقشها مع الحاضرين وبيَّن رأيه فيها.
ذلكم هو فضيلة العالم الأستاذ الدُّكتور: عبدالرَّحمن بن عبدالله الخضيريِّ -سلَّمه الله وبارك فيه وسدَّده- إن ذكر النَّحو فهو رأسه، وإن عُدَّ أهل الصَّرف فهو الصَّرفيُّ المسدَّد، ولا أعرف أحداً أبسط منه في درك مسائل التَّصريف ودقائق علله، وإن جاء أهل العروض فهم ممَّن يشار إليه بالبنان، هو خليله وأخفشه لا يُبارَى فيه ولا يُنازع.
إذا احتدم النِّقاش بين الحاضرين واشتجرت عُرا الأدلَّة، وتغالَطَ القوم في تصحيحٍ أو تخطئةٍ وتصويب أو تغليط، يكفي في حسم المسألة مجيء أ.د.عبد الرَّحمن الخضيريِّ، فإذا جاء فضيلته حسم الأمر، وانتهى النِّقاش واللدد بما يبديه أستاذنا من دقائق تحليله، وجودة تعليله بما لا يدع للمسألة من قولٍ يقال فيها، أو للمخالف من رأي يصادر غيره عليه، بل الجميع يرى رأيه ويؤيِّد قوله بما فتق لهم من حجَّة في المسألة، أو أظهر من مقايسة في سلك جوابه فيها، ويُعظمون فيه عين البصيرة، وموافقة حقِّ الحقيقة، ووجه الصَّواب؛ فكأنَّني أتمثَّل فيه قول نابغة بني ذبيان:
فإنَّك شمس والملوك كواكب
إذا طلعت لم يبدُ منهنَّ كوكبُ
ولقد عرفت خلائق أستاذنا وفضله وعلمه مذ التحقت بالقسم كما أسلفتُ حديثه، ولمَّا أن يسَّر الله وشاء كُلِّف فضيلته التَّدريس لنا في تمهيديَّة مرحلة (الدُّكتوراه) فقد درَّسنا مقرَّر الصَّرف، وممَّا درَّسناه مسائل جموع التَّكسير، فأدركت حينها أنَّه بحرٌ في هذا العلم فهماً وإحاطة، والصَّرف يعسر على المتخصِّصين أحياناً، ويثقل النُّهوض به خصوصاً الجموع ومسائل الإعلال، وهذا ليس معيباً بقدر ما هو دالٌّ على دقيق المسلك هذا العلم رياضيِّ الصَّنعة، وقد وُجِد الإخلال به عند كبارٍ من المتقدِّمين أيضاً، فقد عدَّد ابن جنِّي بعض الأئمَّة ممَّن أظهروا إخلالاً في هذا الفنِّ وهم أئمَّة كبار، ولعلَّ أظهر شيء أن يلاحظ القارئ الفطن كثرما ينشر من البحوث العلميَّة في المجلاَّت العلميَّة المتخصِّصة هي بحوث معدودةفي النَّحو واللغة، وقلَّما ينشر من بحوثفيهاعن الصَّرف.
ولأستاذنا المبجَّل سمة يتَّسم بها أنَّه سريع البديهة قويُّ العارضة، حاضر الجواب مستحضر الشَّاهد والمثال، يزينه مع هذا خلقٌ عالٍ وأدب رفيع، وهو مع هذا إذا قال أو كَتَبَ لا يختار من اللغة عسيرها، ولا يركب من الأساليب منغلقها، لا يحبُّ التَّقعُّر ولا الإغماض، ولا يحبِّذ التَّشدُّق وينبذ التَّفيهق، بل أمره معدلة في القول والفعل، والإنصاف في استطلاب الحقِّ واللهج به، والدَّفع للغلط والرَّفض له لا هضماً ولا ظلماً، فمثله حقيقٌ بل هو خير مَن يرشَّح للتَّحكيم في مسائل العلوم وعلومها.
ومن اهتمامات فضيلته العناية بما يسمَّى (التَّصحيح اللغويّ) إذ يرى أنَّ هذا المركب ركبه غير المتخصِّصين والمتعجِّلين غير المحرِّرين، فجاء في هذه التَّواليف تجاوزات على العربيَّة وأساليبها ومفرداتها وتراكيبها تحجيراً لموسَّع، واختياراً لضعيف، وتضعيفاً لوجه جيدٍّبل وجيه.
ويقول في ذلك: في الحقيقة أصبح عند بعضهم الخطأ هو الصَّحيح من جهالةٍ، والصَّواب هو المخطَّأ، والوجه الوجيه هو الضَّعيف، والعكس، يظهر ذلك جليًّا في قولهم: قل ولا تقل بلا تعليل ولا ذكر حجَّة ولا برهان، كلُّ ذلك مردُّه الجهالة أو عدم التَّحرير والتَّحقيق.
ويذكر فضيلته شواهد لذلك وأمثلة من تلك يسوقها، ومن أمثلة دلالته على سعة الاطِّلاع وحسن التَّوجيه، وسرعة التَّأتِّي والاستحضار أنَّه جاء عرضاً في نقاش مسألةٍ ما ذكر لغة شهيرة هي لغة عند أهل حائل تميميِّهم وشمَّريِّهم أنَّهم يحذفون الألف من (ها) ضمير الغائبة، فيقولون عن المؤنَّثة: هذا كتابَهْ؛ أي: كتابها، فيعلِّق شيخنا أنَّ هذه لغة من لغات الفصحاء، وهي لغة طائيَّة، وعليها جاء قول الشَّاعر عامر بن جوين الطَّائيِّ:
فلم أرَ مثلها خُباسة واحدٍ
ونهنهت نفسي بعد ما كدت أفعلَهْ
وأنَّ (أفعلَهْ) ليست منصوبة، وفتحتها هي نقل لحركة الهاء إلى اللام بعد حذف الألف.
ففضيلته متوقِّد الذِّهن، حاضر الحجَّة، حسن التَّأتِّي لهذه اللغة، دقيق النَّظر إذا التبس أمر مسألةٍ أقامها بالسَّماع، فإن عدمه فبالنَّظر إلى القواعد الكليَّة والأقيسة الأصوليَّة، وأصَّلَ القول فيها وَفق ذلك، وحكم بمؤدَّى القواعد، فهو يصول وِفاق الأصول، وذلك كائن عنده في المسألة الَّتي لا رأي فيها للأئمَّة، أولهم فيها أكثر من رأي متعارض، أو هي من مستجدَّات الأقوال، ونوازل الألفاظ، ومستحدثاث التَّراكيب والصَّيغ.
وممَّا أسوقه سماعاً منه، ويرى كثرتها في كتب (التَّصحيح اللغويِّ) أنَّهم يخطِّئون جمع (عنوان) على (عناوين)، ويرون صواب جمعها على (عنوانات)، وفضيلته يرى عكس ذلك إذ لا يُعدل إلى جمع التَّأنيث إلاَّ إذا عُدم جمع التَّكسير، و(عنوان) ليس وصفاً مزيداً بالألف والنُّون ولا علماً كذلك؛ليمنع جمعه مكسَّراً بل هو كـ(سرحان/ بستان/ سلطان) فجمعها: سراحين وبساتين وسلاطين، ومثل ذلك جمع (تقرير/ تعميم): تقارير وتعاميم هذا هو الصَّواب فيها، فهي مثل (تفسير) الَّتي جمعها الأسلاف على (تفاسير). ويذكر أنَّ جمع (معجم) على معجمات ليس هو الصَّواب عند فضيلته، بل الصَّحيح جمعها على (معاجم)؛ لأنَّ الميم ليس المراد بها الاشتقاق أنَّها بمعنى الفعل، بل أصبح هذا اللفظ اسم جنس، فخرج من الوصفيَّة إلى الجنسيَّة فأصبح اسماً لا وصفاً؛ فيكون إذن جمعه جمع تكسير.
ومن ذلك أيضاً تخطئة أهل التَّصحيح اللغويِّ جمع (ألفٍ) على (آلاف) ويرون صوابها (أُلوف)؛ لأنَّ (فَعْلاً) الصَّحيحة عيناً لا تُجمع على(أفعال) بل على (أفعلٍ/ فُعُولٍ)، فيعجب من هذه التَّخطئة فضيلته، ويقول: إنَّ السَّماع جاء بالوجه المخطَّأ، ففي الذِّكر الحكيم: بثلاثة آلاف، وبخمسة آلاف[ال عمران: 124، 125].
هذا غيض من فيضٍ، وله لقاء مسجَّل مصوَّر كان عنوانه (التَّوسُّع في التَّصويب اللغويِّ)، وهو منشور عبر حساب قسم النَّحو والصَّرف وفقه اللغة في المغترد (تويتر).
متَّع الله أستاذنا النَّحويَّ المدقِّق والصَّرفيَّ البارع والعروضيَّ المبين: أد.عبدالرَّحمن بن عبدالله الخضيريَّ بالصَّحة والعافية والسَّلامة، وأمتَّعنا الله وذويه وطلاَّب العلم بمهجته ومحيَّاه، وبارك له في عمله وعمره، وجزاه الله خير ما يجزي به العلماء المخلصين والأساتذة النَّاصحين. والحمد لله ربِّ العالمين.
** **
أ. د. فهيد الربّاح - كلِّيَّة اللغة العربيَّة/ جامعة الإمام محمَّد بن سعود الإسلاميَّة
fhrabah@gmail.com