الثقافية - د.حمد الدريهم:
يبذلون جهداً مضنياً لأجل حوار ثقافي؛ لكنهم أحياناً يُصدمون بمواقف؛ لتُكوّن حكايا تبقى في ذاكرتهم... محاورون في الثقافة يروون شيئاً من تلك الحكايا للمجلة الثقافية:
هاشم الجحدلي: هاتان قصتان من مسلسل طويل
في مسيرتي الصحافية، إذا كان لي أن أتورط في تسميتها بمسيرة، أجريتُ مئات الحوارات مع عدد لا بأس به من رموز الثقافة العربية، وتختلف هذه الحوارات بحسب مناسبتها ومحتواها، والمساحة المتاحة لها، وبعيداً عن قيمة هذه الحوارات والأكثر أهمية بالنسبة لي فأنني أعتبر حواري مع الرائد نجيب محفوظ من أعقد هذه الحوارات ترتيباً وإعداداً بسبب حجم المعوقات التي وضعت من قبل أصدقائه حتى تصل إليه، وتحايلت آنذاك على هذه الحواجز بالاختراق المباشر، فصاروا أمام الأمر الواقع، وتم الحوار؛ ولكن بشكل مختصر وأقرب إلى المشاهدات من المواجهة كأسئلة وإجابات.
أما الحوار الآخر، فهو حواري مع الشاعر أحمد فؤاد نجم، حيث اتصلت في وقت متأخر، للتنسيق على موعد في الغد، فاستعجلني وقال : «ما تيييجي» ووصف لي المكان ولأنني لا أعرف كواليس القاهرة جيداً، كنت كلما قلت لسائق التاكسي «الهضبة الوسطى» يفر بعيداً، حتى يسر الله لي سائقاً رزيناً وطلب سعراً مبالغاً فيه لعلني أنا الذي انسحب، ولكن الذي حدث أنني وافقت وركبت السيارة، وبعد دقائق سألته: لماذا سائقو التكاسي لا يحبذون الذهاب إلى الهضبة الوسطى ؟
فرد متعجباً وضاحكاً: «يا ابني أنت رايح للمقطم.. «
وهنا هطلت على ذاكرتي المطاريد الذين كنا نتابعهم في المسلسلات المصرية. كانت أجواء مربكة
الحمد لله أن الحوار تم وعدت إلى الفندق سالماً.
هاتان قصتان من مسلسل طويل، لكنها رحلة انتهت بخيرها وشقائها وبعض مآزقها.
صفية الشحي: ضيفتي فاجأتني بشيء لم أتوقعه
إحدى القصص التي لا أنساها خلال مسيرتي العملية كمقدمة ومعدة برامج ثقافية، حدث في عام 2009 . كنت حينها أقدم برنامجاً حوارياً مع شخصيات نسائية إماراتية من شتى المجالات. إلا أن حداثة عهدي بهذا النوع من البرامج كان يمثل تحدياً كبيراً، خاصة مع الرائدات من سيدات الإمارات في الشأن الثقافي.
في إحدى الحلقات كنت أستعد لاستقبال الدكتورة رفيعة غباش -صاحبة الفكر الرفيع والمسيرة الحافلة بالإنجازات الأكاديمية والفكرية- وقد بلغني أنها تتساءل حول شخصية مقدمة البرامج ومستوى أدائها، وكنت قد حضرت نفسي تحضيراً جيداً وأعددت مجموعة من الأسئلة التي تتطرق لعمق تجربة الضيفة. بعد لحظات الترقب الأولى من الطرفين، خضنا أحد أهم وأجمل الحوارات الفكرية خلال سنوات عملي في التلفزيون. وكان أحد الأسئلة التي طرحتها تمس جانباً حساساً وعاطفياً يتعلق بوالدة الدكتورة غباش، مما دفعها للتأثر. كانت لحظة حاسمة ويمكن أن ينتج عنها ردة فعل قوية وخصوصاً بعد ما لمسته من قوة شخصية وحضور طاغ للضيفة. ولكن الأمر مر جميلاً ومؤثراً، وما حدث أن ضيفتي فاجأتني بشيء لم أتوقعه وهو أنها أهدتني قلمها الشخصي كبادرة تشجيع وشكر على الحوار. المشهد ذاته ذكرني بمشهد في فيلم «عقل جميل» الذي يحكي قصة عالم الاقتصاد الفائز بنوبل عام 1994م جون فوربس ناش، حين اتفق جميع زملائه على منحه أقلامهم دعماً له كأحد العلماء المرشحين للجائزة.
عبدالله الزماي: أصرّ أن تصله الصحيفة ورقية في بلغراد
حكايات المحاورين مع ضيوفهم ومواقفهم لا تنتهي وقد تبدأ الحكاية من نهايتها أحياناً أي من بعد نشر الحوار فقد لا يعجبه العنوان مثلاً أو أي شي آخر فيبدأ الجدل، كما حدث ذات مرة مع الروائي محمد حسن علوان بعد فوز روايته (موت صغير) بجائزة البوكر العربية عام 2017م وما صاحب ذلك من ضجة. كلفني حينها الأخوة الزملاء في القسم الثقافي في جريدة الرياض بإجراء حوار معه قرأت الرواية وتشرفت بالتواصل معه والاتفاق على الحوار وبدوري أرسلت له أسئلتي التي أشاد بها ثم أجاب عليها وتم نشر الحوار. عن طيب نية وضع الزملاء عنواناً للحوار يقول (علوان يتحدى منتقديه ويراهن على المتلقي الواعي) من دافع وطني أحبوا أن يحتفلوا بهذا الفوز وكرد أيضاً على من انتقدوا فوز الرواية؛ ولكن المفاجأة أن العنوان رغم عدم وجود ما يسيء لم يعجب علوان وانتقده في تويتر وظن كثيرون أن هذا العنوان من صنعي لأن اسمي مكتوب في الحوار. وفي حكاية أخرى حين وافق الروائي الاثيوبي سليمان أدونيا كاتب رواية (حب في جده) على الحوار وأبدى سروره بذلك ولكن حين قرأ الأسئلة تراجع ووصف أسئلتي بالمحاكمة وهو الذي كتب ما كتب في تلك الرواية ولا يريدنا أن نسأله لماذا!. وباختصار لقد تشرفت كثيراً بروائيين وكتاب استمتعوا بالحوار معي كما كان ممتعاً الحوار بالنسبة لي مثل الروائي الصربي (زوران جيفكوفيتش) الذي أصر أن تصله الصحيفة ورقية في بلغراد وهذا ما حدث وأرسل إلي بصورته معها وهو سعيد، وكذلك لا أنسى سعادتي بحوار الروائي الإيطالي (جوزيبه كاتوتسيلا) الذي وصفني بالقارئ الماهر وقال إنه يتمنى لقائي ذات يوم وهذه أمنية اشترك معه فيها. وكذلك لا أنسى حواري مع المنتج العالمي (أندرياس قوميز) الذي أنتج فيلم (ولد ملكا) الذي يحكي رحلة الملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز إلى بريطانيا في بدايات القرن العشرين، حيث أخبرني قوميز بعد اللقاء أن الأمير تركي الفيصل قد قرأ الحوار وأُعجب به.
عبير البراهيم: الحوار الثقافي مع شخصية أدبية مختلفة قيمة تضاف لرصيد المحاور
يمثل الحوار الثقافي مع شخصية أدبية مختلفة قيمة تضاف لرصيد المحاور ذلك لأن قيمة الثقافة بوصفها جوهر الفكر إنما تقدم حالة من الوعي الإنساني والفكري الذي ينمي لدى المحاور من سقف الحياة وقيمتها وعلى الرغم من تلك المتعة إلا أن هناك بعض الشخصيات الثقافية التي يتم محاورتهم يتصفون بالمزاجية الطاغية ولا نبالغ إذا ما وصفتها هنا لدى القلة جداً بالعجرفة التي يعتقد بعض الشخصيات بأنها تضفي على ثقافته برجاً عالياً من النرجسية المطلية بالأنفة المزيفة.
أذكر بأنني ذات يوم حاورت شخصية لها مكانتها الفكرية والثقافية في المملكة وكنت مأخوذه بفكره؛ ولكن بمجرد الاقتراب منه صدمت بغروره فكم كان شخصاً مشدوداً إلى مكانته التي قللت من احترامه للمحرر الذي أمامه بقوله: (فلتحمدي الله أنني رددت عليك ولم أصدك فمنحتك فرصة حياتك).
إلا أن الواقع الذي لابد أن يذكر هنا بأن غالبية الأدباء في الحوارات يمثلون قيمة في حياة المحاورين مهما تعددت أوجه اختلافاتهم، كما يجب ألا نبخس الأدباء الذين يعتبرون مدرسة في النبل والبياض والثقافة الخلاقة الاستثنائية التي تنقلك من عالم لآخر.
عبدالعزيز النصافي: نثر أمامي صوراً قديمة... وهنا حدثت المفاجأة !
كثيرة المواقف التي مررت بها ما بين غريب وظريف وحزين؛ لكن من أغربها هذا الموقف في عام 1431هـ تقريباً التقيت في سوق عكاظ في الطائف بالباحث المتميز في المواضع الجغرافية الرحالة والجغرافي الأستاذ الكبير عبدالله بن محمد الشايع -رحمه الله رحمة واسعة- لم أكن أعرفه من قبل-؛ ولكني عرفته في تلك الرحلة وعرفني عليه أكثر الأستاذ محمد السحيمي وبين لي مكانته العلمية وجهوده وكتبه ودقته العلمية، أتذكر أننا في تلك الأيام كانت لنا نحن ضيوف سوق عكاظ جولة معه في أرجاء الطائف وكان يحدثنا في تلك الرحلة عن المعلقات وعن الشعراء في العصر الجاهلي وعن المواضع الجغرافية والتاريخية في الطائف، لا أدري من الذي قال لي هو من حدد مكان سوق عكاظ لست متأكدًا من هذه المعلومة ولكنني لا أستغربها لتميزه -رحمه الله- في هذا المجال.
وبعد أن تبادلت الحديث معه في الفندق الذي نقيم فيه وعرفني وعرفته صادفته في المطار ونحن عائدان إلى الرياض وطلب مني زيارته واشترطت أن يكون «لمجلة اليمامة» نصيب من هذه الزيارة وبالتحديد «صفحات مشوار». واتفقت معه على ذلك وحين زرته في منزله -رحمه الله- نثر أمامي صورًا قديمة في أماكن مختلفة؛ لاختيار المناسب منها للصفحات..
و هنا حدثت المفاجأة !
من بين الصور وجدت صورة له مع والدي -رحمه الله- في قريتنا (بادية الشلالحة) وكانت مفاجأة بالنسبة لي لبعد والدي وقريتنا عن الإعلام ولندرة صور الوالد -رحمه الله- ووسط ذهولي واستغرابي قلت له هذا والدي !!
قال لي: والدك!! وهو في قمة استغرابه وذهوله ووقف وهو يردد: سبحان الله (الدنيا صغيرة) سبحان الله (الدنيا صغيرة)!!
ثم قال لي: أبشرك لي معه مقابلة صوتية مدتها تزيد عن ساعة سجلتها في كاسيت ومازلت حتفظ به وبحث عنه في مكتبته حتى وجده وأعطاني الكاسيت وطلب مني نسخه وإعادته إليه ومازلت أحتفظ به.
أما عن قصة الصورة فقال لي إنه قبل عشر سنوات تقريبًا من ذلك التاريخ زار قريتنا الواقعة بين مكة المكرمة والمدينة المنورة على طريق الهجرة بناء على توجيه رسمي لمعرفة أسماء الجبال والأودية المحاذية لطريق الهجرة بين مكة المكرمة والمدينة المنورة وتوثيقها في كتاب وحين وصل إلى القرية زار برفقة رئيس مركز القرية الوالد -رحمه الله- وسجل معه هذه المقابلة التي تدور حول أسماء الجبال والأودية والأماكن التاريخية في هذه المنطقة.
علي الرباعي: لم أسمع كلمة واحدة؛ عدا أصوات الملاعق والصحون .!
من لطائف طرائف الحوارات أثناء تعاوني مع صحيفة الحياة، أجريتُ حواراً مع الدكتورة بدرية البشر في دبي، وبطيبتها المعهودة وحُسن أخلاقها وباعتباري ضيفاً قالت: نلتقي صباحاً في إحدى المراكز التجارية الكبرى وحددت اسم مطعم ومقهى، وحضرتُ في موعدي وبيدي جهاز التسجيل، والمكان عامر بالحركة والعمال يحضرون طلبات ويجمعون من فوق الطاولات واستمر الحوار لساعة وأكثر حول الرواية والكتابة والبرامج التلفزيونية، واستأذنت للعودة للفندق، وفي المساء قررت تفريغ الحوار وبعثه بالايميل للمشرف الثقافي أستاذي أحمد زين، فتحت جهاز التسجيل ولم أسمع كلمة واحدة، عدا أصوات الملاعق والصحون، فخجلتُ كثيراً ولزمتُ الصمت إلى اليوم وأستاذتنا أم راكان التقينا بعدها في مناسبات عدة ولم تسأل عن الحوار!
بالطبع هناك روائي حاورته فغضب من الصورة التي نشرناها مع حواره، واتهمنا بالقصدية وتشويه الحوار المميز بصورة شخصية غير مرتب هندامه فيها، وشاعر غضب من العنوان، واتهمنا بالإساءة لتاريخه الشعري. وثالث مؤرخ قال لي: صياغة العنوان غير جيدة أبداً، ولا موضوعية هل يُعقل أنك لم تجد عنواناً مناسباً للمحاضرة إلا هذه العبارة العابرة التي لا علاقة لها مطلقاً بموضوعها؟!