عندما أطلت برأسي صباحاً من النافذة لاكتشف بهاء ذلك اليوم نهرني أبي:
- «أدخل لا تسقط فتنكسر رقبتك» ثم ضحك وقهقه من كان معه من الجيران، فقد كانوا يتهيؤون للذهاب إلى سوق الأربعاء، كنت لا أزال طفلاً في السادسة، كانت تلوح في الأفق فِكرة الذهاب خِلسة إلى السوق، وكم طلبت من أبي أن أذهب لكنه رفض بشدة، قلت في نفسي مرات عديدة:
-»لن أذهب حتى يأذن لي أبي» ولن يفعل.
كعادتي أستيقظ باكراً، كانت هناك عصابة باردة تضرب وجهي وأنا استرق النظرات في وداعية أبي والمسوّقة، كان دوري هو المشاهدة وليس المشاركة في شؤون البيت، أمي ثم أمي ثم أمي هي من تقوم بكل شيء، وأبي يجلب لنا الطعام، في السقيفة القابعة على شرفة الوادي كالصدع الكبير، تكون حياتي الأخرى كجندي حراسة على الحد الجنوبي، متوثب أنا وسابح في فضاء التأمل، ثم تطوف حمَّالة الحطب تلك العجوز المقطوعة من شجرة وهي تسألني عن أمور الكبار لم أتبين كُنهها:
-»هل حَرِجتْ ختمة على زوجها ؟» وأنا أرد في ذهول:
-»ما أدري «
تنصرف وهي تتمتم:
-»خير لها بلا زواج».
في قريتنا الأليفة تكمن الأحلام ويعم الضجيج، قريتي القابعة على سفح الوادي التي تحيط بها الجبال من ثلاث جهات كحدوة الحصان، ومع الغروب أشاهد المسوّقة يعودون محملين بالبضائع المختلفة، وأبي ينادي عليَّ من مكان بعيد؛ أن أذهب واستقبله وأساعده بما يحمله لنا من بضاعة: دقيق وقمح وشعير وسكر وتمر وفاكهة وموس حلاقة وحُبال وأشياء أخرى لامعة، كنت أسرَّ في قلبي حب الاستطلاع والظروف تؤجله، وفِكرة الذهاب مع المسوّقة إلى السوق تراودني، غير أنني بدأت في نسج خيوطها بالفعل، قلت في نفسي:
-» لن أذهب لسوق الأربعاء فهو بعيد، لكن سوق الأحد الأقرب» فيه يجتمع الناس، يأتون من كل فج ليشهدوا منافع لهم، سأقفز في رحل عمي محمد، عمي لا يهتم كثيرا بتفاصيل ما في رحل دابته، وأختبئ، يساعدني في ذلك نحافة جسمي وقصر قامتي، أبي يهتم بأدق التفاصيل، أتذكر إنه في أحد الأيام ضاع له كبشين أقرنين وهو يبحث عنها وصفهما وصفاً دقيقاً فلا مجال لأحد أن ينكرهما.
وأنا أصارع الإبل الهائجة في الوادي أهرب منها يتمزّق ثوبي بدت سوءتي، يا ربي كما خلقتني أركض برجلي وأسمع ناقوس الخطر يدق في رأسي، أصيح على أمي وهي تقف في تلك السقيفة، لكنها لا تسمعني ولا تستجيب، عرقي يسيل ودمٌ ينز من قدمي.. أصحو من كابوس على صياح ديكنا الرومي، أنهض سريعاً لتنفيذ خطتي المرعبة، ألبس ثوبي، أجابه أمي تعد الفطور وهي تئن من ألم يعصرها في بطنها، يقف المسوّقة في زقاقنا، ينتظرون بعضهم، أشرد بفكري، أتخيل المشهد» بين جموع غفيرة نساء ورجال يبادلون الضحكات والهمسات والعشق، أندس بين الملابس التي تزيّن واجهة المحلات كقط صغير.. صوت أبي يوقظني من شرودي:
-»ارجع مع أمك يا ولد» وأثناء غفلة القوم في ارتشاف القهوة، اسمع الكؤوس تداربين الأيدي ثم تقع تباعاً في حوض من نحاس فيه ماء تُنقّع ويعاد الشرب بها ثانية، وما بين غفلة عيون وانتابتها قفزت في رحل عمي كانت راحلته أتانة طاعة في السن تمشي الهوينا في المؤخرة تكورت بجسدي كسقط المتاع بين حبال وأقمشة وأكياس، كان ذلك النهار الشتائي صافياً وسماءه زرقاء ليس فيها بيضاء سحابة، كنت في الرحل أتمايل كأنني جنين في بطن الحمارة، وبعد وقت ليس بالقصير بدأت أسمع لغط الناس وثغاء الشياه وأصوات نشاز، وقفت الأتانة وسمعت المسوقة وأبي يلتقطون الأنفاس ثم يبتعدون عني، المكان والجلبة من حوالي نهيق الحمير وخوار البقر.. أخرجت رأسي من الرحل أصابتني الدهشة، مكان فسيح ممتلئ بكل الألوان والنساء والأطفال والبضائع كأنها لؤلؤ منثور، لامعة برّاقة، تذكرت أمي هي الآن تبحث عني بحزن، وبوخت نفسي: لماذا فعلت ذلك؟ وما هو مصيري؟ قطع حبل تفكيري وشوشة تقترب مني عدت إلى الرحل كحمل وديع ثم استرقت السمع وأخرجت رأسي، رأيت رجل وامرأة يتهامسان ويضحكان ثم يتبادلان القُبل في جانب السوق الأيمن بين الخيام والزنك، حدثت نفسي:
-»السوق ملتقى الأحباب أيضاً» لم اهتم لشأنهم، وخرجت مذهولاً مدهوشاً تعتريني رهبة الموقف والمكان، وفي داخلي خوف عميق من النهايات، دخلت السوق كفاتح وخائف كمجرم، أجول بناظري في كل مكان، رجالٌ بيض وسود نساء بيض وسود، نساء يبيعن الخبز والعسل والسمن ورجال يبيعون الملابس والحُلِي والسلاح الأبيض، وأنا كالكرة تتقاذفني الأرجل؛ كأنني في موج من أنفاس وأصوات لم يرعنِ أحداً انتباهاً، ولم انتبه لتشكّل السحب السوداء فوق رأسي، فجأة يعم السواد المكان، كان بعد الظهر ما يشبه العاصفة صواعق وعصف وبرق وبَرد ورياح اقتلعت الخيام وكل ما خف وزنه، هرج ومرج وهروب جماعي في كل اتجاه، وأنا كعصفور بلله القطر أكاد أغرق، لم أعد أبصر شيء، أصابني الخوف من الصواعق التي تشبه الرصاص تضرب الأرض وصوتها كالمدافع، لم أحس بشيء فكأنما غبت عن الوعي من هول الموقف، وإذ بيد تمسك بي وترفعني عن الأرض كملاك منقذ لي، آوينا تحت شجرة كبيرة تظللنا بأورقها التي تشبه المظلة، كنت محمولاً بين يدي أبي والناس حولي مدهوشين متسائلين كيف وصلت إلى هنا، عدت على ظهر أتانة أبي خائفاً أترقّب، سمعتهم يقولون: إنه من عقود لم ينزل مطر مثل ذلك اليوم، ونحن عائدون إلى قريتنا كنت أشاهد السيل يجرف ما تبقى في السوق من جمادات، نسيت العقاب المزدوج من أبي وأمي، ولم أنس هلع ذلك اليوم وبقيت آثاره محفورة في الأعماق.
** **
- عيسى مشعوف