جاء في محاضرات الأدباء: «لو قيل لعجوز منحنية: يا عجوز ويا جدَّة لغضبت واستوحشت، ولو قيل: يا جارية، لقالت: لبيك وسعديك! وعلى ذلك: يا شيخ ويا فتى».
ويرى يزيد بن عتاب أن الرجل يحترق حين يدعى بالشيخ، ويفرح حين يدعى بالفتى، مع أن من يدعوه بالشيخ أراد تكريمه:
يا حرقة القلب بيا شيخ ويا
برد الفؤاد حين يدعى: يا فتى
ويُنسب لمحمود الوراق قوله:
إذا ما دعوتَ الشيخَ شيخاً هجوتَه
وحسبك مدحاً للفتى قول: يا فتى
فكيف إذا كان من دعاه: (شيخاً) امرأة تهزأ به، كما وقع لأبي أمية أوس الحنفي، حين دعته امرأة: «يا شيخ»، فقال لها مدافعاً عن نفسه، ومبيناً أنه ليس بشيخ، لأن الشيخ هو الذي لا يستطيع المشي إلا بثقل شديد:
زعمتني شيخاً ولست بشيخ
إنما الشيخ من يدب دبيبا
ويقول البحتري إن الغواني يأنسن لغير النابه من الرجال، ولا يفعلن ذلك مع الكبير ذي الكنية:
كلّف البيض بالمغمِّر قدرا
حين يكلفن والمصغر سِنّا
يتشاغفن بالغرير المسمى
من فتاءٍ دون الجليل المكني
وكثيرا ما تجري حوارات بين الشاعر المسن وفتاة، أو امرأة تصغره سناً فتناديه: «يا عمي» أو: «يا أبي». إنها - وإن قصدت بهذا تكريمه - لكنه تكريم أشبه ما يكون بالإهانة. إنه نداء لا يوحي عندهن إلا بالخبال، كما يقول الأخطل في قصيدة يندد فيها بمكر الغواني وتلاعبهن:
ما إن رأيت كمكرهن إذا جرى
فينا ولا كحبالهن حبالا
وإذا دعونك عمهن فإنه
نسبٌ يزيدك عندهن خبالا
ويقول ابن الرومي ساخراً من تكريم الغانيات له، تارة بمناداته عمًّا، وتارة أبًا:
أصبحت شيخاً له سمت وأبهة
يدعونني البيض عمًّا تارة وأبا
وتلك حالة إجلال وتكرمة
وددت أنيَ معتاض بها لقبا
وقد انتقم ابن المعتز لنفسه ممن عيرته بأنه صار عمًّا، فقال:
قالت وقد راعها مشيبي:
كنتَ ابن عم فصرت عمّا
واستهزأت بي فقلتُ أيضا:
قد كنتِ بنتا فصرتِ امّا
كفِّى ولا تكثري ملامي
ولا تزيدي العليل سمّا
وقد ساء أبو بكر بن زهر الأندلسي أن تدعوه الغواني بـ (الأب) بعد أن كن يدعونه بـ (الأخ)، وإن كان النداء بالأخ ممن يُؤمل أن تكون محبوبة غير مستساغ، ولا يدل على تقارب عاطفي بينهما، فقال:
كانت سليمى تنادي: يا أخيَّ، فقد صارت سليمى تنادي اليوم: يا أبتا وأصبحت العيون البابلية في نظر فتيان الشاغوري بلاء نازلا، إذ صارت نظراتهن له نظرات كاره، وصرن يدعونه (عمًّا) لا تكريماً له، وإنما سخرية به:
يا عاذلي ما العيون البابلياتُ
ينفثن سحرا لنا إلا بلياتُ
قد صرن يفركنني بعد الوداد فحبّات القلوب انسرت عنها المحبات
وعُدن يدعونني عمًّا مهــازأة
يا خيبة العم تدعوه الصبيات
ولا يتخلى الشاعر إذا شاخ عن ولعه بالصبايا، ورغبته في وجودهن بالقرب منه، ولو لمجرد النظر المؤدي إلى الإلهام، ولعل هذا ما يفسر لنا قول عمر بن أبي ربيعة:
إني امرؤ مولع بالحسن أتبعه
لا حظ لي فيه إلا لذة النظر
وهو الذي عرف - كما حكى عن نفسه في العديد من قصائده - بافتخاره بمغامراته مع الغانيات، فهذا البيت - فيما يبدو - نتاج المرحلة التي انصرفت فيها عنه الغانيات، ولم يبق له إلا لذة النظر.
ويذكرنا هذا بالشاعر محمد المشعان - رحمه الله - فقد صارت صاحبته ذكرى جميلة، وغدت (شيئا) من الأشياء التي تبعث على الإلهام، كمنظر جميل، ولم يعد يريدها إلا لتكون ملهمة للقوافي ليس أكثر:
أنتِ ذكرى تغلغلت في حياتي
وأشاعت وجودها في وجودي
أنتِ شيء أريده للقوافي
فإذا شئت غير ذا لا تعودي
** **
- سعد عبد الله الغريبي