كنت أتساءل- كلما استمعت إلى فقيد المسجد، وأنيس المشهد، أديب الجمال والجلال أحمد بهكلي- عن سر كل هذه المآثر التي زيَّن الله بها لسان وبيان وبنان أبي عبدالرحمن! وهي صفات «بهكلية» لا أحسب أن من عرف أبا عبدالرحمن، أو التقاه سيفقدها فيه؛ وقد رأيت منه مراراً ما يؤكد تلك المزية التي منحها الله إياه، وبارك له فيها.
تترى الآن المواقف والمناسبات واللقاءات الشاهدة على ذاكرتي الندية البهية بذكراه العابقة السامقة. ولكني أستحضر هنا صالة نادي الرياض الأدبي حوالي عام 1411هـ ، حيث كنت حاضراً نشاطاً شعرياً يقوم على قراءة بعض الشعراء الشباب لبعض قصائدهم، ثم قيام بعض النقاد بقراءة لهذه النصوص، وقد استمعت إلى هذه النصوص وإلى قراءاتها، بيد أن قراءة «أحمد بهكلي»كانت قراءة مختلفة، إذ جاءت منسابة للنصوص بطريقة ذكية لطيفة! وكان توقفها عند أحد نصوص الأمسية عميقاً وهادئاً، ومثيراً أيضاً، على نحو لفت نظر الجميع فيما أحسب... كان النص حديثاً جداً، وكان الإلغاز هو طريقه إلى تمرير جملة من الإسقاطات الغريبة التي أكدت القراءة البهكلية أنها لا تتهم النص وصاحبه، بل تشير بأدب جم إلى احتماليتها الكبيرة «والحق أنها كانت كذلك».
لم تتجه القراءة الذكية النبيلة إلى منطقة الاتهام والمحاكمة، بل سمت إلى إيجاد مبررات لجرأة الشاعر الواعد، مؤكدة أنها تثق أن الرؤية الشعرية لم تكن تقصد الإساءة، أو التجاوز غير المنضبط! وكانت الجملة التي يكررها البهكلي في تعقيبه هي: «أخي الحبيب» وهو ما أضفى على القراءة البعد الجميل الذي لا يتقنه سوى من أوتي سماحة، ونبل أحمد البهكلي رحمه الله. وكانت في الوقت ذاته توجيهاً فنياً قبل أن يكون فكرياً لكل الحضور من الشباب أن أي تجديد تكون عدته فقط الهجوم على المسلّمات من أجل لفت الانتباه، هو تجديد فقير، إن لم تكسبه القراءات الواعية، والاطلاع على كل التجارب المتنوّعة المتميزة أرضاً صلبة للانطلاق نحو صوت الذات المتفردة!
انتهى المشهد وبقي في ذاكرتي لا يبرحها أبداً، وكنت أقارنه وقف البهكلي الراحل بمستويات أخرى من الهجوم، والهجوم المضاد الذي شهدته تلك المرحلة، وأقارن أيضاً بين من يخلص للعلم والمعرفة، ويرجو ما عند الله، وبين صراعاتنا التي لم يستطع بعضنا أن يخلصها للعلم، كما خلصت عند الصادقين في مشهدنا «كثر الله بياضهم».
لم يجرح البهكلي أحداً فيما أعلم من الأدباء أو النقاد، وهو الذي عاش سنوات الاختلافات، وعايشها وكان معنياً بها، بحكم شاعريته وتخصصه، ومكانه، ومكانته، بل كان وفياً ووافياً للكلمة الجميلة التي تتخلص من شوائب الذات، وتنطلق نحو رؤية أسمى وأرقى!
لقد قبلت روح البهكلي الجمال أياً كانت جهته،كما تقبل عقله وفنه أصالة وتراثية «جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية» وحداثة جامعة «إنديانا» الأمريكية، لأنه كان حفياً بكل أطايب الكلمة البهية التي عشقها، وأخلص لها.
ولست مبالغاً إن قلت إن هذا الراحل النبيل -عليه سحائب الرحمات الواكفات- كان نموذجاً لنكران الذات، ومحبة الآخرين، وعلامة من علامات الأدب بمعناه الواسع، مسلكاً وسلوكاً في القول والفعل؛ لأنه -فيما أحسب- كان يريد ما عند الله، والدار الآخرة...
اللهم إنه كان فينا مثالاً للكلمة الطيبة التي تجذرت خيراً وبراً، ونمت وأزهرت، وصوحت في آفاقنا بكل جميل؛ فكن به رحيماً لطيفا...
** **
- د. عبدالله حامد