كم حزنتُ على وفاة الشاعر والأديب والناقد واللُغوي والأكاديمي والحقوقي الدكتور أحمد يحيي البهكلي يوم الأربعاء 17 محرم 1443هـ الموافق 25 أغسطس 2021م عن 78 عامًا متأثرًا بإصابته بمرض فيروس كورونا ( كوفيد - 19 )، فقد كان لي بمثابة الأخ الكبير الذي أستشيره واستنير بآرائه وحكمته والزميل الكريم من خلال عضويتنا في الجمعية العمومية للجمعية الوطنية لحقوق الإنسان كعضوين مؤسسيْن بها وعضويته معي في مجلسها التنفيذي لثلاث دورات وكذلك عضويتي في لجنة الأعضاء التي كان يرأسها، فكان حريصًا على حضور اجتماعات الجمعية العمومية والمجلس التنفيذي ولجنة الأعضاء، ويأتي خصيصًا من جازان إلى الرياض لحضورها، لقد كان إنسانًا محترمًا متواضعًا جمَّ الأدب وغزير الحكمة، بل كان لسانه يقطر بالحِكم ذات عمق فلسفي تعكس فلسفته في الحياة، وخلاصة تجاربه فيها، ويشهد على هذا خلاصاته الحِكَمَية وومضاته الشعرية التي تزيّن بها حسابه على التويتر، التي منها:
• «تَكمُنُ القوةُ في حُسْن الاختيار، ويَكمُنُ الضعفُ في سُوئِه».
• «قَدَرُ ذوي العقل والحكمة والصبر أن يقودوا مسيرة الحياة، وحينما لا يفعلون تختلّ الموازين وتفقد المسيرة أغلى ما تملك».
• «حركة الناس كحركة اللغة؛ فبعض ألفاظ اللغة متكررٌ دائرٌ على الألسن كل حين، وبعضها نادرُ الورود في الكلام، وبعضها ميتٌ محنط. وذلك حال الناس بحسب أثرهم في الحياة وتأثرهم بها».
• «طريقُ الإيمان والقيم الفاضلة والكرامة الإنسانية واحدٌ وغيرُ قابلٍ للتفريع».
وعند موت مرضى كورونا حرقًا في إحدى مستشفيات العراق، قال:
• «يتحول الألمُ إلى فجيعة حين يلجأُ المريضُ إلى المستشفى طلبًا للشفاء من مرضٍ عارضٍ فيموت محترقًا بالنار نتيجةَ استشراء الإهمال والفساد».
• «لا يعني تقدمك في السن أنّك غادرتَ قوتك وأصبحت سهل المنال؛ فالتقدم في السن من أهم روافد القوة واكتمال الشخصية ونُضْج التجربة. وذلك يعني ذروة القوة والشموخ والاعتزاز بالذات ورفض الانصياع للمغريات».
• «في الاعتذار خلاصةُ سجايا العقل والقلب والروح، والاعتذار هو الشيء الذي يَمِيزُ البشرَ عن البهائم. على أن كَفَّ الأذى عن المخلوقات أعلى درجةً من الاعتذار وأَدْعَى? لانتشار السلام في العالم».
• «من رجاحة العقل إنزالُ الخطاب في مكانه وزمانه وسياقه ومعرفةُ موضوعه ولغته جيدًا».
• «قد يكون الواقع هو الحقيقة أو جزءًا منها، وقد يكون نقيضًا لها. والعقلاء ينتمون إلى الحقيقة ويتعاملون مع الواقع بوعي وحكمة».
• من رَجَاحَةِ العقل وحُسْنِ الأدب جلوسُ الزائر في المكان الذي يُجْلِسُهُ فيه صاحب الدار.
• «التاريخ مَنْجَمٌ لا يَنْفَد، ومع ذلك لا يستثمره إلا قليل من الناس؛ ذلك أن أكثرَهم محبَطون أو خائفون أو جَهَلَة».
• «بعض الأقلام كالسكاكين إذا وقعت في أيدٍ لا تجيد الإمساكَ بها واستخدامَها، فهي تجرحُ أيديَ أصحابها قبل أن تجرح أيديَ غيرهم. وذلك مرتبط بمستوى علم هؤلاء ودرجة اتزانهم وسلامة تفكيرهم».
ومن ومضاته الشعرية
أَجَلُّ هِبَاتِ اللهِ عافيةٌ تَسْرِي
ورشدٌ يُنِيرُ العقلَ ثُمَّ نَدَى السِّتْرِ
بذلك يسمو المرءُ والهمُّ ينجلي
فلِلَّهِ جَزْلُ الحَمْدِ يَغْدَقُ بالشُّكْرِ
وإنني لأقترح على ابنه البار الأستاذ عبد الرحمن -الذي له الشكر بما زوّدني به من معلومات وبعض قصائد والده- أن يجمع خلاصات وومضات والده، ويصدرها في كتاب لتنضم إلى مجموعته الشعرية الثلاث: «الأرض والحب» و»طيفان على نقطة الصفر»، و»أول الغيث»، وكذلك إلى كتبه في اللغة والنقد والثقافة التي منها كتابه في النقد «النقد النفسي في التراث العربي».
أبرز المؤثرات في تجربته الشعرية
تحدّث عنها الدكتور البهكلي في الملتقى الأدبي لشهر محرم 1430هـ للمكتب الإقليمي لرابطة الأدب الإسلامي بالرياض، وكان اللقاء بعنوان «الشاعر أحمد بن يحيى البهكلي في تجربته الشعرية»، والتي يمكن تلخيصها في الآتي:
1 - التنقلات المستمرة بين عدد من مدن المملكة في طلب العلم مثل جازان والرياض وأبها، وغيرها، ثم سفره إلى أمريكا لنيل درجة الماجستير في علم اللغويات من جامعة أنديانا.
2 - تتلمذه على العلماء والأدباء في منطقته، ومنهم والده، والشيخ عبد الله القرعاوي، التواصل مع عدد من الشعراء البارزين الذين كانوا في أبها مثل الشاعر السوري على دمّر، والشاعر المصري محمد بدر الدين، والشاعر السوداني محجوب عمر، والأستاذ أحمد بيهان. والمراكز الصيفية التي كانت تستضيف أعلام التربية والأدب.
3 - طلبه العلم في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية على يد عدد من نخبة الأساتذة.
4 - ديوان الشاعر العراقي هدية أستاذه له كان نموذجًا شعريًا مبكرًا في بنائه الشعري، وكتابات المنفلوطي والرافعي وشكسبي ر، والمكتبة الوطنية في الرياض من أبرز منابعه الأدبية والثقافية.
5 - فلسطين كانت الشرارة التي قدحت جمرة الشعر في أعماقه عندما رأى معلمه يبكي أمامه في قاعة الصف أثناء اختبارات نهاية العام، لسقوط القدس وباقي فلسطين هزيمة العرب في حرب يونيه حزيران 1967م وما زالت تلك اللحظة تعمل في ذاكرته متوقدة حتى وفاته!(المصدر: منتديات الثقافية)
أغراض شعره
هذا وقد طرق الشاعر البهكلي عددًا من أغراض الشعر، فبرز في شعر الحكمة والرثاء والانتماء إلى الوطن ومنها ما يتركز حول همّ العرب والمسلمين (فلسطين).
من أبيات الحكمة في شعره:
وأَشْقَى الشقاءِ ادِّعاءُ المعالي
ِذَابًا وسَرْدُ المفاخرِ زَعْمَا
وما الوَهْمُ إلا ضبابُ انكسارٍ
يَغُمُّ عُقُولًا ويُحْبِطُ عزمَا
ومَنْ يزرِعِ الوَهْمَ يَجْنِ رُهابًا
فيوسِعُ في كَلَأِ الأرضِ صَرْما
الوطن في شعره
من قصيدة «وطن في أرواحنا» من ديوانه «صمتُ الأوردة»
الناس فوق ثرى أوطانهم سكنوا
ونحن يسكن في أرواحنا الوطن
أحلامـيَ الخضرُ يرسو فيك زورقها
وفيك أبحرتِ الآمال والسفن
يا موطني لم تَهِنْ يوما لطاغيةٍ
لم ينتهك وطني المستعمرُ الأسن
فلسطين والقدس والأقصى في وجدان البهكلي
قصيدة أنشودة النصر، في 9/ 10/ 1442هـ
وفي القدس داس الكرام على
جباه اللئام فبشرى لنا
يحق لكم يا أسود الشرى
زئير يهز هدوء الدُّنى
وفي فيض الأمل في 6 / 10/ 1442هـ
من شط غزة حتى الشيخ جرّاح
فيض من الأمل النّامي على السّاح
وفي قصيدة أخرى قال:
وللقُدس والمسجد الأقصى مُحبّونا
مرحى لهم في رِباطٍ بات يُحْيينا
يا ربُّ ثبِّتهُمُ وانْصُرْهمُ فهمُ
فَخَارُ أُمّتنا وادْحَرَ أعادِينا
الرثاء
وللشاعر قصائد رثائية كثيرة يعكف أبناؤه ومحبوه عليها لطبعها في ديوان مستقل..
ومن أبرزها رثاؤه لأمه:
أماهُ أعلم أنّ الصوتَ لن يصِلا
وأنْ سيرتدُّ نحوي يحملُ الوجلا
أمّاهُ والريحُ كم أسرجتُها فرسًا
لصرخةٍ لم تجُزْ سهلًا ولا جبلا
وقال عن والده في تغريدة:
«والدي هو الشيخ الجليل يحيى بن محمد بن أحمد البهكلي، مساحة من البياض والضياء تتلألأ نورًا وعطاء وقمة شامخة عزة وعزمًا ومضاء، ولد وتوفي في جازان، رحل لطلب العلم إلى اليمن والحجاز ونجد، عمل إمامًا وخطيبًا ومعلمًا في الرياض وأبها وجازان وأبوعريش رحمه الله وغفر له.
هذا وقد رثاه عدد من العلماء والأدباء والشعراء والمفكرين، وفي مقدمتهم تلميذه فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس إمام وخطيب المسجد الحرام والرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف بمقالة مطولة بأسلوب أدبي رفيع من 8 صفحات بعنوان «الرثاء الأكملي في عزاء أستاذنا البهكلي».
** **
- د. سهيلة زين العابدين