القصد من الطيفين هو الألم والأمل وما بينهما المعاناة، وحين أقول المعاناة أعني بذلك كل المؤثرات والعوامل الداخلية والخارجية التي تؤثر في مزاجيّة الإنسان، هذا التعريف سعلي الحرف، كذلك سأفصّل فيه قليلاً إذا سمحتم؟
حسنًا سأبدأ بالسؤال التالي:
ما هي هذه العوامل الداخلية التي تؤثر بالإنسان؟
طبعًا الفكر، والقلب، والليل دعونا الآن نبحرُ فيها:
الفكر: إشغال العقل بالتفكير لتلك المعاناة وتدور رحى الأسئلة في رأسه، تُطحن مع فكره لتتساقط الدموع بطحين الألم.
أما القلب: فلا أحد يبصر ما بداخله من وجع وهَمٍّ وغم، سوى صاحبه، وكأن القلب ترجمان الفكر يستعد لانفجار العبرات في سكون الليل ساجدًا.
وأخيرًا الليل: وهذا الليل هو استجرار المعاناة وكشف عينيها الناعستين برمشحها الباكي، ولعل خير من يمثّل الليل هذه المرحلة الأخيرة من المعناة في العوامل الداخلية للإنسان الشاعر امرؤ القيس حين قال واصفًا ليله المتعب بأنّان الحيارى:
وليلٍ كمَوجِ البحر أرخى سدولَه
عليّ بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لمّا تمطّى بصُلبه
وأردف أعجازًا وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويلُ ألا انجلي
بصبح وما الإصباحُ منك بأمثلِ
فيا لك من ليل كأن نجومَه
بكل مُغار الفَتلِ شُدّتْ بيَذْبُلِ
بقي الآن العوامل الخارجية لهذه المؤثرات التي تصيب الإنسان:
أكثرُ الأشياءِ إيلامًا هي أن ترى معاناتك في عيون محبيك، وتبقى حينها معاناتك تخفّ قليلاً لتشاهده فيمن يواسيك، فلا تملك عندها إلا أن تخفّف عليه وتربّت على أكتافه وتواسيه، وهنا المفارقة العجيبة سبحان الله حين شرع العزاء والأخذ به رغم ألم أصحابه، والحكمة من ذلك بثلاثة أيام، لأن من وجهة نظري الثلاثة الأيام الأولى هي أشد جرحًا لأرباب المعاناة، فكل كلمة عزاء تقال أو تنفذ إلى أقطار أصحابها، وهي الدواء الحقيقي والنفسي، وأظن أن كلمات الشاعر خالد الفيصل خير دليل على ذلك حين قال بأبياته واصفًا تلك المعاناة بخبرة شاعر مبدع:
يا ليل خبرني عن أمر المعاناة
هي من صميم الذات ولا أجنبية
هي هاجس يسهر عيوني ولا بات
أو خفقة تجمح في قلبي عصية
هي صرخة تمردت فوق الأصوات
أو ونة وسط الضماير خفية
أو عبرة تعلقت بين نظرات
أو الدموع اللي تسابق همية
والسؤال الآن هل المعاناة تصنع كاتبًا؟
وأظن هذا المحور مهم جدًا طرحه والإجابة عليه أصعب، صدقوني لا يعي ذلك سوى من ذاق المعاناة بطرف لسانه واستقرّ ت بقلبه كمدًا!
الطبيعي أقول إنه ليس بالضرورة المعاناة تصنع كاتبًا، نجعلك مثقفًا، يولد لدينا أديبًا... وهكذا بشتى فنون الإبداع، وهذا في مجمله يقترب من الصحة لحدٍّ كبير ولكن؟!
قد تصنع المعاناةُ كاتبًا ذا حرف يلمع، حين يكتب بسطره يُشبع، وإذا يمدح يقنع، وإذا حزن يوجع، وإن هجا ذات مرّة لخصمه يُوقع، وهذه من النوادر
لأن حرفه وسطره وجمله، وتراكيبه، وألفاظه ومفرداته مجتمعة خاضت معارك المعاناة وخرجت منها منتصرًا بأقل الخسائر.
كيف أتجاوز المعاناة، وأحوّلها في قالبٍ إبداعي؟
هذا هو الآن أصعب سؤال في هذه النقطة بالذات،
هنا نأتي للُبّ العنوان «بين طيفين»..
رغم كل الألم يخرج من طيّه الأمل
رغم كل هذا الظلام سترى النورَ قريبا
حتمًا في آخر النفق هنا ضوء شمعة
رغم كل البكاء هناك من يلتقط الدمعات، ويمسحها بيده، ويهزّك ليقول لك:
اطمئن نحن معك!
هناك أربعة عوامل لتجاوز هذه المعاناة وهي:
الصبر، الصديق/ة، القراءة، الكتابة
- الصبر
وله أيضًا توابع مهمة.
قال تعالى {لَئِن شَكَرْتُم لَأَزِيدَنَّكُمْ?
{..وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ}.
{..وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}.
فالشكر ثم الصبر ثم الاستغفار المواجهة لأي معاناة كانت!
- الصديق/ة كلاهما الدواء من داء الفراق ومن أجله تأتي المعاناة، فالصديق كما قيل وقت الضيق، ولا أعلم ضيقًا أكثر من معاناة حزين بفراق غاليه، الصديق يأخذ قلوبنا ويبحر بها إلى بَرّ الأمان، الصديق الصدوق الصادق الذي يقف بجانبك وقت حزنك قبل فرحك، الصديق إذا حَسُن الاختيار فهو توأم الروح صدقوني .
- القراءة أولاً وثانيًا وثالثًا وعاشرًا ومليونًا .. لأنها سبحان الله تطوي معاناتك كطي الورق، تذهب عنك الكثير من الأرق، وتزيل منك بقايا من قلق
ومع آخر ورقة تسقط من توت الأحزن وكل ما عَلَق..
القراءة كالذي يقرأ قل أعوذ برب الفلق، والكتابة صنوها فالكتابة تعبير عما يخالج النفس من آلام وأحزان وهموم وغموم وكبت المعاناة ...
فالكتابة عبّرت عنها ذات يوم بـ
ثلاثة اصطاد منها واشتفي
صلاتي وقلمي ودفتري
سطر وفاصلة
الشاعر يرسم بفرشاة الحروف
ألوان القوافي
ويلوح كبدرٍ في سماء القصيدة
ليبتدر السؤال
ويترك للمتلقي
حرية خيال النهايات
أما القاص
فهو يشعل شرارة ا لإبداع
من طي بحرٍ
أما الروائي فهو مَنْ تتقاذفها أمواج شخصية متمردة وفي اللحظة نفسها موجعة حدّ الامتلاء والاحتفاء وعذوبة السماء
** **
- علي الزهراني (السعلي)