سبق لنا أن وفَّينا الحديثَ في مصطلَحي اللَّوحة والورقة في علم المخطوط العربيّ في موضعٍ آخَر من هذه المجلَّة الغرَّاء، وقد انتهينا فيه إلى أنَّ اللَّوحة هي «صفحتا الظهر والوجه المتجاورتان»(1).
وكان ممَّا لفت انتباهي ونظري، واستهوى قلمي وسطري، تناوب مفردَتي اللَّوحة واللَّوح في استعمالات الباحثين والدَّارسين من أهل التَّحقيق وغيرهم، وجنوح بعضهم إلى نعت اللَّوح بالفصيح، واختلاف آخَرِينَ في إيراد اللَّوحة بين الغلط والصَّحيح؛ فعنَّ لي أن أكتبَ شيئًا في تأصليهما، وكشف ما بينهما من الفروق الدَّقيقة مبنًى ومعنًى، وبيان ما يتَّفقان عليه ويفترقان فيه، مفهومًا ومصطلحًا.
أولًا: اللَّوح واللَّوحة قديمًا وحديثًا
وردت مادَّة (ل. و. ح) في القرآن الكريم في ستَّة مواضع، بثلاث صيغٍ، جمعًا، ومبالغةً، ومفردًا. أمَّا الجمع فجاء على صورتين، إحداهما معرفةً، والأخرى نكرةً، كقوله تعالى: {وكتبنا له في الألواح من كلِّ شيءٍ موعظةً وتفصيلًا لكلِّ شيءٍ} [الأعراف: 145]. {وألقى الألواحَ وأخذَ برأسِ أخيه يَجُرُّه إليه} [الأعراف: 150]. {ولما سَكَتَ عَن مُوسى الغَضبُ أخذَ الألواحَ} [الأعراف: 154]. {وحَملنَاه على ذاتِ ألواحٍ ودُسُرٍ} [القمر: 13]. وأمَّا الصِّيغة المبالغة فقد وردت في قوله تعالى {لوَّاحةٌ للبَشَر} [المدَّثر: 29]. وجاءت صيغة المفرد في قوله تعالى: {في لَوحٍ محفوظٍ} [البروج: 22]. أمَّا في التُّراث المعجميّ فقد اطَّرد ورودها فيه بجميع صِيغها المسموعة.
في حين لم ترد اللَّوحة لا مفردها ولا جمعها في القرآن الكريم البتةَ، ولم يكن لها حضورٌ في المعجمات القديمة إلَّا بدلالتها المصدريَّة على العدد أو المرَّة للفعل: لاح يلوح. نحو: لُحته ببصري لوحةً، إذا رأيته ثم خفي عليك. قال ابن الأحمر: لاحت هجائنُ بأسي لوحةً غُرُبًا(2).
أمَّا اللَّوحة بمعناها المحدَث، فأقدم مَن وجدته استعملها فيه هو المستشرق الهولندي من أُسرةٍ فرنسيَّة الأصل Reinhart Pieter Anne Dozy «رينهارت بيتر آن دوزي» (ت1300هـ) فذكر لها من هذه المعاني، نحو: لوح خشب، أو لوحة إعلان، أو لافتة بحروف كبيرة، أو لوحة خشبية صغيرة لمزج الألوان وفرشها(3). نقلًا عن معجم بوشر الفرنسي الذي ألَّفه اليوسي بوشر المصريّ سنة 1852م(4)، ثم توالى إيرادها بعدئذٍ في المعجمات الحديثة(5).
ثانيًا: اللَّوح واللَّوحة مبنًى ومعنًى
من المعلوم أنَّ المفردتين ترجعان إلى أصلٍ لغويّ واحد، هو (ل.و.ح)، بيد أنَّ الاختلاف بينهما هو في الصِّيغة، تلك الزِّيادة المتمثّلة بالتَّاء المربوطة التي أربت بها اللَّوحة على اللَّوح. ولمبنى مفردة (اللَّوح) وجهان: أولهما أن يكون مصدرًا على وزن (فَعْل) للفعل: لاح يلوح، بمعنى: لَمَحَ وَلَمَعَ. يُقَالُ: لَاحَ الشَّيْءُ يَلُوحُ، وأَلَاحَ بِسَيْفِهِ: لَمَعَ بِهِ. وَأَلَاحَ الْبَرْقُ: أَوْمَضَ. وَاللِّيَاحُ: الْأَبْيَضُ. ولَوَّحَهُ الْحُرُّ، وَذَلِكَ إِذَا حَرَّقَهُ وَسَوَّدَهُ حَتَّى لَاحَ مِنْ بُعْدٍ لِمَنْ أَبْصَرَهُ. فمُعْظَمُ أصله مُقَارَبَةُ بَابِ اللَّمَعَانِ(6). وهو أحد ركني المعنى المحوري للأصل (ل. و. ح): الظُّهور والعِرَض، عند الدُّكتور محمد جبل (رحمه الله)(7). والوجه الآخَر أن يكون اسمَ الجنس الجمعيّ، و»هو ما تضمَّن معنى الجمع، دالًّا على الجنس، نحو: بطِّيخ، وتفَّاح، وتمر. ويفرق بينه وبين مفرده تاءٌ تلحق المفرد، فيقال في حالة الإفراد: بطِّيخة، وتفَّاحة، وتمرة»(8). فينصرف معناه بهذا الوجه إلى الرُّكن الثَّاني: العِرَض، ومنه: اللَّوْحُ: الْكَتِفُ. وَاللَّوْحُ: الْوَاحِدُ مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ; وَهُوَ أَيْضًا كُلُّ عَظْمٍ عَرِيضٍ. واللُّوحُ بِالضَّمِّ: الْهَوَاءُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ(9).
أمَّا مبنى مفردة (اللَّوحة) فهو مصدر على وزن (فَعْلَة)، المصدر العددي أو مصدر المرَّة للفعل: لاح يلوح، بمعنى الظُّهور واللَّمعان كالذي تقدَّم. ولم ينقل عن العرب في هذا المبنى بمعناه المحدَث اليوم، لذلك اعتُرِض عليه بأنَّه غير مسموع. نعم، يوجد لفظ (لوحة) ولكن بمعنًى آخَر غير المعنى الذي نريده، كما يوجد المعنى الذي نريده، ولكنَّه معبَّرٌ عنه بلفظٍ آخَر، فتحصلَّ من هذا أن يكون لدينا أصلان عتيدانِ: أحدهما تحقُّق المعنى المراد في استعمال المفردة المحدَثة من الأصل اللُّغوي عينه، وثبوت المفردة بصورتها لكن على معنًى آخَر غير المعنى الذي نريد؛ لهذا رأى أصحاب مجمع اللُّغة القاهريّ في الدَّورة الثَّانية والخمسين جوازَ استعمالها، فقالوا: «من أشيع الكلمات في لغتنا المعاصرة هذه الأسماء: اللَّوحة. النَّجمة. الوجهة. الفرخة. الطَّاسة. العظمة. ويُعترض على هذه الكلمات بأنَّها غير مسموعة وأنَّها أسماءٌ دخلت عليها التَّاء التي لا تدخل قياسًا إلَّا على الصِّفات، وترى اللَّجنة قبولها على أنَّ التَّاء فيها للدَّلالة على الوَحدة أو لتأكيدها، وفي مسموع اللُّغة كثيرٌ من الأسماء ذوات التَّاء، وقد سبق للمجمع أن أقرَّ دخول تاء الوَحدة على المصادر بلفظها بإطلاق»(10). وفي ضوء ذلك بنى محمَّد العدنانيّ وأحمد مختار عمر تصحيح اللَّفظة وجواز استعمالها(11).
ثالثًا: اللَّوح واللَّوحة مفهوماً ومصطلحًا
يُعرَّف المفهوم في أشهر تعريفاته بأنَّه: «مجموع الصِّفات والخصائص التي تُحدِّدُ الموضوعات التي ينطبق عليها اللَّفظ تحديدًا يكفي لتمييزها عن الموضوعات الأخرى، فمفهوم الإنسان بالمعنى الأرسطي -مثلًا- هو أنَّه حيوانٌ ناطقٌ، وما صدقاته هم: أحمد ومحمد، وسائر أفراد النَّاس»(12). وأمَّا المصطلح فقد عرَّفه التَّهانويّ (ت1158هـ) بقوله: «هو العرف الخاصّ، وهو عبارة عن اتِّفاق قومٍ على تسمية شيءٍ باسمٍ بعد نقله عن موضعه الأول؛ لمناسبةٍ بينهما، كالعموم والخصوص، أو لمشاركتهما في أمر ما، أو مشابهتما في وصف، أو غيرهما»(13). فالعلاقة بين المفهوم والمصطلح علاقة العموم والخصوص المطلق، فكلُّ مطلحٍ مفهومٌ وليس كلُّ مفهومٍ مصطلحًا؛ فيختصُّ المفهوم بالصُّورة الذِّهنيَّة للشَّيء، ويتحدَّد المصطلح بالدَّلالة اللَّفظيَّة للمفهوم. ولا بدَّ من أن يتوافر في المفهوم شرطانِ؛ لكي يكتسب صفةَ الاصطلاح: أولهما حصول الاتِّفاق والإجماع عليه، والآخرُ بلوغ النُّضج والانتشار(14).
فهل تحقَّق في اللَّوح أو اللَّوحة هذا الشَّرطان؟ الجواب: نعم، ويُعزِّز ذلك ما يأتي:
الأول: نظريٌّ، يتمثَّل بتدوين اللَّوح مُصطلحًا قارًّا من مُصطلحات علم تحقيق المخطوطات، واستقرار الاعتراف به دالًّا على صفحتَي المخطوط(15).
والثَّاني: تطبيقيٌّ، يتجلَّى في ذيوع هذه المادَّة اللُّغويَّة بصيغها المختلفة على ألسنة المحقِّقين، ولعلَّ نظرةً عَجلى في التُّراث المحقَّق تؤكِّدُ هذا الشُّيوع في مئات بل آلافِ الأعمال التَّحقيقيَّة في شتَّى العلوم والفنون المعرفيَّة(16).
أمَّا نشأة هذا المصطلح وحقبة ظهوره واستعماله مُرادفًا للورقة أو بديلًا عنها، فقد أعلمني أستاذنا الدُّكتور عبد الله الطَّويل -حفظه الله ووفَّقه - أنَّه يرجِّحُ أن يكون ذلك مع ظهور آلات التَّصوير الحديثة من أجهزة (ميكروفلم) ونحوها. ثمَّ شاع استعماله وتداوله بين المحقِّقين، حتى غدا مصطلحًا قارًّا على هذا المعنى المعروف في علم التَّحقيق.
رابعًا: اللَّوح واللَّوحة اتفاقًا وافتراقًا
يمكننا أن نُسجِّل خلاصة ما انتهينا إليه فيما بين مفردَتي اللَّوحة واللَّوح:
أوَّلًا: اتِّفاق المفردتَين في الأصل اللُّغويّ (ل.و.ح)، والدَّلالة العامَّة أو المعنى المحوريّ لجذرهما الذي تؤولان إليه، وتخريج جميع تصريفاتهما على ذلك الأصل. قال الدُّكتور محمد جبل (رحمه الله): «عِرَضُ ظاهرِ الشَّيء واستواؤه مع جفاف أو صلابة: وعِرَض الظاهر واستواؤه يَلزمه زيادةُ ظهوره ولمعانه: لاحَ النَّجمُ: بدا وألاحَ: أضاءَ وبدا وتلألأ واتَّسعَ ضَوءُهُ، وكذلك السَّيفُ والبَرْقُ والرَجُلُ. أمَّا اللُوحُ بالضَّم والفتح: الهواءُ بين السَّماء والأرض، فمن أنَّهُ شفَّافٌ يلوح الأُفقُ من خلاله فهو بمعنى مَلُوح من خلاله»(17).
ثانيًا: فصاحة مفردة «اللَّوح» مبنًى ومعنًى في جميع مواضع ورودها واستعمالها في التُّراث العربيّ القديم.
ثالثًا: فصاحة مفردة «اللَّوحة» بمعنى المصدر العدديّ للفعل: لاح يلوح، أمَّا على المعنى الحديث فلم يُسمع عن العرب في التَّراث القديم؛ فعدَّها مجمع اللُّغة القاهريّ محدَثةً، فقال: «اللَّوحة: لوحٌ من الورق الغليظ أو النَّسيج يُصوَّر فيه منظرٌ طبيعيٌّ، أو مشهدٌ تاريخيّ، أو نحو ذلك تصويرًا فنيًّا (محدَثةٌ)»(18).
رابعًا: انفراد مفردة اللَّوح عن اللَّوحة بمعناها القديم، وانفراد اللَّوحة عنها بمعناها المحدَث. ولعلَّ هذا يُعزِّز أنَّنا لا نُبعد النُّجعةَ لو خصَّصنا المعنى الجديد بلفظٍ جديدٍ يناسبه ويلائمه، وأبقينا للقديم قديمَه؛ تحقيقًا للتَّناسب والوئام بين المباني والمعاني، وأمنًا للَّبس والتَّداخل، ودفعًا للازدواجيَّة والتَّشويش على المتلقِّي.
خامسًا: لا غضاضةَ في استعمال مفردتَي «اللَّوح» و» اللَّوحة» متناوبتَين في الدَّلالة على المعنى القديم أو المحدَث؛ بناءً على أنَّ اللَّوحةَ مفردُ اللَّوح، بحسب ما أجازه مجمع اللُّغة القاهريّ.
سادسًا: ترادف المفردتين في الاستعمال، بكلتا صيغتيهما: المفرد والجمع؛ دلالةً على صفحتَي المخطوط المتجاورتين في علم تحقيق المخطوطات؛ هو المنهج السَّائد والمتداول في آثار المحدَثين والمعاصِرين.
سابعًا: ذيوع استعمال الألواح جمع لوح في وصف النُّسخ بالإشارة إلى مجموع ما يتكوَّن منه الم خطوط من صفحتَي الظَّهر والوجه، نحو: ويقع المخطوط في سبعة ألواح. وشيوع اللَّوحة مفرد اللَّوحات في الهوامش والإحالة إلى مظانّ النَّصِّ وموضعه من المخطوط، نحو: انظر: اللَّوحة كذا. ولعلَّ ذلك لمناسبة كلٍّ منهما دلاليًّا لموضعه المستعمَل فيه جمعًا وإفرادًا.
ثامنًا: اللَّوح أوسع دلالةً من اللَّوحة في التَّراث؛ لمجيئها مصدرًا واسمَ ذاتٍ قديمًا وحديثًا، في حين لم ترد اللَّوحة قديمًا إلا مصدرًا، وورودها اسمَ ذاتٍ محدَثٌ.
تاسعًا: ظهرَ أنَّ مصطلح «اللَّوحة» مفردًا أو جمعًا أكثرُ استعمالًا من لفظة «اللَّوح»، على ألسنة والمحقِّقين وكتاباتهم، وهم أصحاب مهنة التَّحقيق، وأكثر النَّاس استعمالًا للمصطلح.
عاشرً: بدا لنا -في حدود بحثنا ومبلغ علمنا- أنَّ هذا الاستعمال المحدَث لمفردة (اللَّوحة) وليدُ القرن التَّاسع عشر الميلادي. والله أعلى وأعلم.
- - - - - - - - - - - - - - - - -
(1) انظر: العدد (686)، 24 شوال 1442هـ- 5 يونيو 2021م: 10
(2) انظر: العين: 3/ 300، و4/ 411.
(3) (4) انظر: تكملة المعاجم العربيَّة: 9/ 283، 1/ 22.
(5) انظر: معجم الصَّواب اللُّغويّ: 644.
(6) انظر: معجم مقاييس اللُّغة: 5/ 220.
(7) انظر: المعجم الاشتقاقيّ المؤصّل لألفاظ القرآن الكريم: 4/ 1960- 1961.
(8) النَّحو الواضح في قواعد اللُّغة العربيَّة: 1/ 45.
(9) انظر: معجم مقاييس اللُّغة: 5/ 220.
(10) القرارات المجمعيَّة في الألفاظ والأساليب: 261.
(11) انظر: معجم الأخطاء الشَّائعة: 230، ومعجم الأغلاط اللُّغويَّة المعاصرة: 652، ومعجم الصَّواب اللُّغوي: 644.
(12) بناء مفاهيم: دراسة معرفية ونماذج تطبيقية الجزء الأول: 31.
(13) كشاف اصطلاحات الفنون: 1/ 112.
(14) انظر: الدِّراسة المفهوميَّة: مقاربة تصوريَّة ومنهجيَّة: 40 وما بعدها.
(15) انظر: معجم مصطلحات المخطوط العربيّ: 385.
(16) وَفقًا لإحصاء إلكترونيّ أجريته في المكتبة الشَّاملة.
(17) المعجم الاشتقاقيّ المؤصّل لألفاظ القرآن الكريم: 4/ 1960- 1961.
(18) المعجم الوسيط: 2/ 845.
** **
صفاء صابر مجيد البياتي - العراق - كركوك