د. إبراهيم بن محمد الشتوي
منذ أن ابتدأت أشاهد الأفلام الأمريكية، والعربية أيضاً، وأنا ألاحظ أعتمادها على «الملاحقة» بأن يأتي رجل يلاحق رجلاً آخر أو رجل يلاحق امرأة أو امرأة تلاحق رجلاً أو امرأة تلاحق امرأة أو بغيرها من الأشكال كأن يكون فرد يلاحق جماعة أو جماعة تلاحق فرداً أو إنسان يلاحق حيواناً أو حيوان يلاحق إنساناً أو حيوان يلاحق حيواناً وهلم جرا.
تبتدئ الملاحقة على الأقدام، ثم تنتقل إلى السيارات، ثم إلى الدراجات النارية، وإلى الدراجات الهوائية ثم تصير إلى الأقدام مرة أخرى، وقد تشترك في هذه الملاحقة الطائرات، يجتاز فيها المتلاحقون الشوارع، والممرات، والبنايات، والمنازل، والحدائق وكل ما يقع أمامهم. وقد تتكرر الدائرة أكثر من مرة بحسب طول العمل وقصره وطول الملاحقة وقصرها.
ولم أقم في الحقيقة بدراسة عن نوع الأفلام التي تعتمد على «الملاحقة» في تركيبها، أهي خاصة فيما يسمى بأفلام «الأكشن»، أم عامة في جميع أنواع الأفلام التي قد يكون منها تاريخي وعاطفي، واجتماعي. إلا أن «الملاحقة» تأتي على أنواع؛ فمنها النوع المباشر الذي تحدثت عنه سلفاً، وتقوم الملاحقة فيه على اجتماع الملاحق والملاحق (بفتح الحاء) في حيز واحد بالاعتماد على الجانب الجسدي، وهناك الملاحقة غير المباشرة التي يلاحق فيها الشخص شخصاً آخر في جهة أخرى من الأرض عن طريق الوسائل الإلكترونية، وجمع المعلومات وتتبع حركاته بغية معرفة ما يفعل، وما يصير إليه دون الرغبة في إمساكه الذي قد يصار إليه فيما بعد، وقد يكون الشخص يلاحق شخصاً مجهولاً لا يعلمه، وإنما يقتفي آثاره، ويحاول أن يتبين شخصه حتى إذا عرفه صار إلى أحد الأنواع السالفة بأن يتابع حركاته، ويجمع معلوماته ثم يحاول أن يمسكه فيصير إلى النوع الأول.
وفي هذه الأشكال من الملاحقة نجد حجمها يختلف في العمل الدرامي من أن يكون جزءاً من الفلم إلى أن يكون هو الأساس الذي تقوم عليه حبكة العمل الدرامي، ومن أن يكون عنصر تشويق في بعض أطراف العمل إلى أن يكون الحبكة كلها.
وحين يكون جزءاً من العمل الفني كالذي تكون فيه «الملاحقة» جسدية، فإن التصنيف النقدي له يتردد بين أن يكون «موتيف» على طريقة السيد بروب، أو أن يكون ثيمة، والفرق بينهما يعود في المقام الأول إلى المنهج المتبع في الدراسة بين أن يكون المنهج الشكلاني أو المنهج الموضوعاتي، وهذا طبعاً يؤثر على طريقة النظر إلى هذا (العنصر) الفني، فحين يكون المنهج الشكلاني فإن الأمر يقتصر على تأثيره الشكلي سواء في بناء الحدث الدرامي أو في تطوره دون أن يكون مقصوداً لذاته أو لإيصال رسالة معينة، أما حين يكون المنهج الموضوعاتي فإن الأمر يتجه إلى التأثير الموضوعاتي أي إلى المحتوى مع شيء من العناية بالشكل مع أنها هي عينها (الملاحقة) مقصودة لذاتها.
يمكن أن نبين الفرق بينهما في نوع السؤال المطروح عن قيمة هذا العنصر في العمل الفني أجمع بين أن يكون (موتيفا) أو «ثيمة»، فحين يكون النظر إليه بوصفه (موتيف) يكون السؤال عن مكوناته وصلته بالذي قبله أو بعده من الناحية الشكلية وبوظيفته في سيرورة الحدث سواء في مفهوم بروب أو بارت للوظائف، فإذا كان مؤثراً بالحدث بمعنى أن ما يأتي بعده يترتب عليه ومتكرر فهو «موتف» أما إذا لم يكن مؤثراً وليس متكرراً فلا يعد كذلك.
ويمكن أن أضرب على ذلك مثلاً بقيادة السيارة للهارب (الملاحَق) معاكساً الطريق. وهي تتكرر كثيراً في أفلام الأكشن. حين ننظر إليها بوصفها (موتيف)، فإن دورها يقتصر على شدة التشويق باعتباره صورة مغايرة للقيادة العادية، وتشرك عدداً كبيراً من الناس في عملية الملاحقة بوصفهم متضررين من هذا الفعل، وهم كل الذين يقودون السيارة بالاتجاه الصحيح، وأيضاً بوصفهاً دليلاً على إمعان قائد المركبة بالفرار مهما عرضه ذلك من أخطار، وعلى مهارته بالقيادة بحيث يستطيع أن يقود سيارته في مواجهة هذا العدد الكبير من السيارات دون أن يتعرض للاصطدام.
أما حين ننظر إليه بوصفه «ثيمة» (هناك طبعاً من لا يفرق بينهما إلا بوصفهما لفظتين مختلفتين لشيء واحد) فإن الجانب المهم هو المحتوى، ما يعني أن قيادة السيارة عكس السير تمثل نوعاً من المخالفة القانونية، وهو ما يزيد جرم السائق إلى جرم، فبالإضافة إلى أن ما قام به من عمل أدى إلى ملاحقته قد يكون ممنوعاً فإن معاكسة السير تعني أنه يتلبس بالجرم أمام الناس، لا يبالي بذلك، وهو ما يعني إما شدة ما يفر منه سواء كانوا من الشرطة وهو ما يدل على عظم العقوبة التي تنتظره أو من المجرمين أو من الشرطة الفاسدين الذين يريدون أن يطبقوا عليه بعض أفخاخهم ليضعوه مكان من يريدون أن يغطوا عليه من المجرمين الحقيقيين إذا كان بريئاً.
والمهم هنا أن هذا العنصر قد أدى تطوراً على مستوى دلالة الحدث في المنهج الموضوعاتي باستعمال «الثيمة» في حين أن أثره كان على مستوى الشكل باستعمال «الموتيف» بالمنهج الشكلاني، وأن هذا الفارق في الوظيفة هو الذي يؤدي إلى الفارق في المفهوم.
على أن (الملاحقة) أكبر من أن تكون ثيمة أو أن تكون موتيف، وإنما تتكون من عدد كبير منهما عند دراستها دراسة منهجية. وهذا حديث طويل مغاير لما نحن بصدده إلا أن «الثيمة» بوجه عام قد تكون كبيرة مثل (الملاحقة) تحمل في تكوينها عدداً من الثيمات، وقد تكون صغيرة، ففيها لا يمثل الحجم والدور في العمل الفني عاملاً في تعريفها أو تحديد مفهومها، في حين أن حجم «الموتيف» يمثل عاملاً مهماً في تعريفه؛ فهو أصغر وحدة شكلية متكررة ذات قيمة في بناء العمل الفني.